أكملتُ منذ أيام قراءة كتاب “الحبس كذّاب… والحي يروّح” للمناضل اليساري فتحي بالحاج يحي، وهو عبارة عن شهادة حيّة لمعاناة منظمة العامل التونسي في سجون تونس ومذكرات اليسار في أواخر ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي والقمع الذي عاشته القوى الديمقراطية في ظل حكم الزعيم بورقيبة.
وقد أثار لديّ موضوع الكتاب عديد التساؤلات عن عالم السجون الغريب وماتُخفيه أسوارها من آلام ومعاناة خصوصا في ظلّ الإكتظاظ الذي تشهده هذه السجون، ووجدتُ نفسي أستعرضُ الحلول التي قد تساعد على تخفيف عدد المساجين، وخاصة مايسمّى بالعقوبات البديلة. وقد روى لي أحد الأصدقاء وقد سبق أن أودع في أحد السجون التونسية أنّه في فترة من الفترات كان السجناء ممن قاربت مدّة محكوميتهم على النهاية يخرجون يوميّا في مجموعات تحت حراسة أعوان السجن للقيام بتنظيف بعض المستشفيات والفضاءات العامة ومطار تونس قرطاج..
وبعد البحث، تبيّن أنّ القانون عدد 89 لسنة 1999 ، قد أقرّ مبدأ تعويض العقوبات السالبة للحريّة بالعقوبات البديلة. ونصّ الفصل 15 مكرر على الآتي: “للمحكمة إذا قضت بالسجن النافذ لمدة أقصاها عام واحد أن تستبدل بنفس الحكم تلك العقوبة بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وذلك من دون أجر ولمدة لا تتجاوز ستمائة ساعة بحساب ساعتَين عن كل يوم سجن”.
مع العلم انه يمكن للقاضي أن يحكم بهذه العقوبة في جميع المخالفات وفي الجنح التي يقضى فيها بعقوبة سجن لا تتجاوز السنة نافذة، مثل جرائم الاعتداء على الأشخاص الذي لا يترتّب عنه سقوط مستمر أو تشويه وغير المصحوب بظرف من ظروف التشديد، وإمّا القذف، وإمّا المشاركة في معركة وكذلك جرائم حوادث الطرقات التي تأتي على شكل مخالفة لقانون الطرقات باستثناء جريمة السياقة تحت تأثير الكحول أو إذا اقترنت المخالفة بجريمة الفرار،
وثمّة أيضا جرائم اجتماعيّة، منها جرائم مخالفة قانون الشغل ومخالفة قانون الضمان الاجتماعي وكذلك مخالفة قانون حوادث الشغل والأمراض المهنية، وكذلك جرائم إهمال عيال، وتُضاف إلى تلك الجرائم أخرى شريطة ألا تتجاوز مدّة الحكم فيها عاماً واحداً. ويستفيد من هذا الإجراء فقط من ليست لديه سوابق عدلية، من رجال ونساء على حدّ سواء، أمّا الفئة العمرية فهي غير محددة.
ومن شروط تلك العقوبات خضوع المحكوم إلى فحص الطبي يثبت تمتعه بصحة جيدة ليتمكّن من القيام بالأعمال الموكلة إليه في إطار جمعية أو مؤسسة عمومية. وفي ديسمبر 2018، أصدرت محكمة المنستير أولى العقوبات البديلة في حقّ شاب (مواليد 1992) محكوم عليه بالسجن لمدّة أربعة أشهر بتهمة السرقة. ولأنّه لا يملك سوابق عدلية، استُبدلت نصف مدّة العقوبة بأعمال البستنة لساعتَين يومياً على مدى شهرَين لمصلحة بلدية لمطة.
مع الاشارة إلى أنّ تطبيق العقوبات البديلة يلقى استحسان القضاة والمحامين والمشرفين على السجون ومكوّنات المجتمع المدني، لا سيّما أنّه سوف يساهم في الحدّ من الاكتظاظ في السجون والتخفيف من كلفة السجين اليومية. وتلك العقوبات من شأنها أن تحمي السجين الذي يخلو سجلّه القانوني من سوابق عدلية من الاختلاط بمساجين محكوم عليهم على خلفية قضايا قتل وترويج مخدّرات وسطو وغيرها من الجرائم الخطرة. بالتالي تصير العقوبة البديلة إجراءً إصلاحياً لحماية آلاف من مرتكبي الجنح.
ويبقى الإشكال أن العقوبات البديلة لا تُنفّذُ إلاّ بطلبٍ من المتهم المدان، إذ أنّ القالضي غير قادر على إصدار حكم بالعقوبة البديلة إلا في حال تلقّى “طلبٍ من المدان” الذي يبقى له الحقّ في قبول العقوبة البديلة أو رفضها. وفي حالة الرفض، يصدر القاضي الجزائي الحكم المستوجب بالسجن. أمّا في حالة القبول، فيتوجّب على المدان التعهد الكامل بتطبيق العقوبة البديلة في الآجال التي تقرّرها المحكمة وإنجاز الأعمال المطلوبة.
وعند الإخلال بالتعهد، يكون المدان عرضة لتطبيق الحكم القضائي الأصلي في حقه. لكن في المقابل نجد جهات تشكك في نجاح العقوبات البديلة، من قبيل لجنة التشريع العام في البرلمان، التي تشير إلى صعوبة تطبيق الإجراء، كما أنّ مؤسسات عمومية كثيرة ما زالت ترفض تشغيل المدانين جزائياً.
ومن الإجراءات التي يمكن اللجوء إليها لتخفيف عدد المسجونين، السوار الإلكتروني الذي يُعَدّ كذلك عقوبة بديلة للمساجين المدانين في جُنح بسيطة لا تمثّل خطراً على المجتمع. وهؤلاء الذين يستفيدون من تلك التقنية، سوف يتمكّنون من ممارسة نشاطهم اليومي بينما يخضعون للمراقبة والمتابعة عبر السوار الإلكتروني.
يا إلهي.. آش مدخّلني في هذا البوغاز؟ “ربي يهديك” سي فتحي بالحاج يحي.. لماذا وجدتُ نفسي أُفكّرُ في هذه المسائل وأنا أقرأُ مذكراتك؟ كان بإمكاني أن أقرأ – كيما بقيّة خلق ربّي – وأغلق الكتاب بعد أن أضع علامة على الصفحة التي وصلتُ إليها، ولكن “دُودة” التفكير تغلبني في كل مرّة.