قامت الدنيا ولم تقعد وأعلن ساكن قرطاج الحرب على احتكار بضعة أطنان من السميد ومادة “الفرينة ” وبعض المواد الغذائية الأخرى…لكن لسائل ان يسأل لماذا الآن واليوم وهذه الأيام؟ فهل ما وقع حجزه كاف بأن نعلن الحرب من أجله على من أتاه … فالاحتكار الحقيقي هو ذلك الذي يمسّ من حياة واستقرار المواطن والوطن…
أظنّ أننا انتقلنا من مرحلة دغدغة المواطن سياسيا بضرب الخصوم، إلى مرحلة دغدغة مشاعر المواطن اجتماعيا من خلال تحويل وجهته إلى خطر التجويع ونفاد بعض المواد الأساسية…فالاحتكار لا يمكن مقاومته بحملات لن نكسب من ورائها شيئا… الاحتكار يُقَاوَمُ سواء بإغراق السوق بالمواد الأساسية وحينها نضرب عصفورين بحجر واحد: المحافظة على استقرار الأسعار، وتوفير الكميات اللازمة في السوق، حينها سيضطر المحتكر الحقيقي لإخراج كل ما يحتكره من مواد أساسية خوفا من أن تفسد ويكون الخاسر الأكبر مما أتاه…
وكل ذلك لن يكون بالأمر الهيّن في وضعنا الاقتصادي الأعرج لذلك وجب رفع شعار “العودة إلى الإنتاج” قبل أي إعلان لحرب خاسرة … فالإنتاج ومنذ 14 جانفي مصاب بالشلل ولا أحد فكّر يوما في معالجة أسبابه… والانتاج أهمّ بكثير من إعلان الحرب … فالمعضلة الحقيقية التي وجب الاعتراف بها اليوم هي أننا دولة ستفتقد في قادم الايام والاشهر إلى أغلب المواد الحياتية الأساسية والذنب ليس ذنب المواطن، ولا التاجر، بسبب ترهّل سياساتنا الإنتاجية وعجز وزارة الفلاحة والقائمين على شؤونها على تطوير سياساتنا الإنتاجية الفلاحية أو العودة بها إلى ما كانت عليه منذ أربعين سنة مضت …
فالتاجر اليوم يريد الربح السهل، والمواطن يسعد بالعثور على ما يريده وما ينقصه ولو كان بضعف سعره الحقيقي… الخطأ ليس خطأ التاجر أو من يسمونه المحتكر بل خطأ من يحكم البلاد… والغريب في أن ما يجري في تونس اليوم هو استغلال فوضوي لأوجاع الشعب … فالدولة أو القائمين عليها يستغلون حاجة الناس لدغدغة مشاعرهم وتحويل وجهتهم عن أمر آخر لا يريدونه أن يكون حديث الناس والساعة… فالحرب على الاحتكار جاءت لتغطّي عن فشل و”مسخرة” الاستشارة الوطنية وما قد يفعلونها بها لدرء الاسوأ…كما جاءت لتغطي فشلا أكبر في توفير الطمأنينة للمواطن، فلأول مرّة منذ استقلال البلاد لا يشعر المواطن التونسي بالأمن والاطمئنان على مستقبله ومستقبل أبنائه… كما جاءت هذه الحرب للتغطية عن النبش في رفع الإقامة الجبرية عن البحيري والبلدي، والخفايا الحقيقية وراء وضعهما رهن الإقامة الجبرية …
وجاءت أيضا لتكون جزءا من صناعة مبررات رفع الدعم والانصياع لشروط صندوق النقد الدولي… فساكن قرطاج لن يجلس مع قيادات الاتحاد دون أن يوفّر مبررات ما ستقدم عليه حكومته لإرضاء صندوق النقد الدولي حتى يضعها على طاولة الحوار و”يقمع” به قيادات الاتحاد …عفوا يقنع به الاتحاد وقياداته…ساكن قرطاج أبدع منذ استحواذه على جميع مفاصل الحكم والسلطة عبر الفصل 80 من المغفور له دستور 2014 … أقول أبدع ساكن قرطاج في تحويل وجهة هذا الشعب والرأي العام السياسي إلى أكثر من وجهة مجهولة الهوية… وأغلب ما أتاه من عمليات تحويل الوجهة كان لإيجاد مبررات مراسيمه… فكل مراسيم قرطاج لم تأت هكذا دون أن يصنع لها ساكن قرطاج مبررات يقنع بها الشعب والرافضين لما أتاه…ويضعها على طاولة المعارضين لسياساته…
فماذا يمكن أن نسمي ما أتاه ساكن قرطاج منذ 25 جولية ألا يمكن تسميته احتكارا للمشهد والفعل السياسي … ألا يمكن أن يكون الاحتكار السياسي بما يعنيه من تضييقات على بقية القوى السياسية والمدنية والذي تعيشه البلاد منذ ذكرى إعلان الجمهورية سببا ومدخلا لاضطراب الاوضاع الاقتصادية المتردية …وإلى مزيد من التردي والخراب الاقتصادي… ألا يمكن أيضا أن يفتح الباب أمام قوى خارجية للتدخل في شؤوننا الداخلية وفرض خياراتها استغلالا لأوضاعنا السياسية والاقتصادية المهترئة وارتفاع حجم مديونيتنا…ثم ألا يمكن ان يتحوّل الاحتكار السياسي الذي تعيشه البلاد إلى موجة من القمع والتضييق على الحريات، وارتكاب الكثير من التجاوزات الماسة من حقوق الانسان…
بعض الذين بايعوا ساكن قرطاج يواصلون ترويجهم لمقولة “لا يزال الوقت مبكرا لتقييم فترة حكم ساكن قرطاج وتحديد الموقف تفاؤلا أو تشاؤما”، هؤلاء نسوا أن ساكن قرطاج كان على بينة من أوضاع البلاد يوم انقلب على شركائه، فهي التي جعل منها مبررا لما أتاه، كما كان يدرك أنه وضع على عاتقه مواجهة فردية لكل تحديات ما أتاه، فهو من اختار ساكن القصبة الأول لعهدته بعد ان أوقعته النهضة في ورطة الاختيار، وهو أيضا من كان وراء اختيار الساكن الثاني للقصبة الذي اختار الانقلاب عليه منذ ليلة مسكه بقائمة أعضاء الحكومة…فساكن قرطاج اختار أن يتحمّل لوحده تبعات كل تراكمات الفشل والفساد وسوء إدارة شؤون البلاد التي ميّزت منظومة ما بعد 14 جانفي… وتبعات جائحة كورونا وما آلت إليه الأوضاع بين روسيا وأوكرانيا، وما ترتب عنها من ارتفاع تاريخي وغير مسبوق لأسعار النفط وبعض المواد الأساسية التي تستوردها البلاد من روسيا وأوكرانيا…
نسي ساكن قرطاج أن الاحتكار السياسي الذي تعيشه البلاد أخطر عليها، وعلى هذا الشعب من الاحتكار الذي أعلن عليه الحرب لتحويل وجهة الرأي العام عن بعض الأحداث التي تكشف فشل منظومة قيس سعيد في إصلاح أوضاع البلاد…فالاحتكار السياسي لساكن قرطاج أضعف تنوّع المشاركة السياسية بالبلاد، وساهم في انتشار ظاهرة اللامبالاة مما يجري بالبلاد، وعزوف بعض القوى السياسية عن المشاركة في حمل همّ المواطن والوطن، كما سيكون الاحتكار السياسي سببا رئيسيا ومباشرا في الحد من فرص صناعة إطارات وبناء كفاءات سياسية جديدة، وخلق جيل سياسي جديد قادر مستقبلا على قيادة المشهد السياسي والبلاد باقتدار…
لقد مسّ الاحتكار السياسي لساكن قرطاج كل مفاصل الحكم المحلي والجهوي، من خلال التعويل على مجموعة من أهل القرب والثقة والانتماء الانتخابي، لإدارة الحكم المحلي والجهوي، والاستحواذ على شرايين مؤسسات الدولة والإدارة التونسية، وأغلب المناصب الهامة في الدولة…وقد يصبح غدا ومع أول موعد انتخابي أكثر خطرا من خلال ترشيح “الاقربون” لعضوية مجلس النواب والمجالس المحلية والجهوية ومساندتهم للوصول إلى أروقة السلطة والحكم… وهنا يتضاعف حجم الخطورة من خلال ضمان تمرير التشريعات والقوانين التي قد تكون في صالح من يعبثون بالاقتصاد التونسي من خلال الاحتكار الاقتصادي…فالاحتكار السياسي له ارتباط وثيق بالاحتكار الاقتصادي في أغلب البلاد العربية…وعادة ما نجد أن من يمارسون الاحتكار الاقتصادي والتجاري هم ذاتهم من يحتكرون العمل السياسي من خلال قربهم من سلطة القرار… فمن سيضمن غدا أن لا يتحوّل الاحتكار السياسي الذي تعيشه اليوم تونس إلى احتكار اقتصادي شامل يأتي على الأخضر واليابس…
يحاول ساكن قرطاج ايهامنا جميعا، وإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بأنه قادر على المحافظة على بعض بقايا “النهج الديمقراطي” الذي سلكت بعضه البلاد منذ سفر بن علي رحمه الله إلى الأماكن المقدّسة … لكنه نسي أن الديمقراطية لا تعيش جنبا إلى جنب مع نظام يمارس حكامه الاحتكار السياسي، فالاحتكار السياسي هو ممارسة فعلية لهيمنة فكرية رافضة للآخر وللشراكة مع الآخر، وهو مدخل مباشر لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي على حساب الحوار مع الآخر وحقوق الآخر، والاعتراف بالرأي المخالف وتلاقح الثقافات والأفكار، وبذلك تكون استحالة تعايش الاحتكار السياسي مع الديمقراطية فكرا وممارسة…
فالاحتكار السياسي في مفهومه الشامل والذي تعيشه البلاد اليوم هو الانفراد بالسلطة وبالقرار، وتغييب شبه كامل للقوى السياسية والاجتماعية الأخرى، وبالتالي ينقلب الاحتكار إلى إبادة ضمنية للتنوع الطبيعي للأفكار… واختلاف الرؤى وتعدّد الآراء… وهذا ما قد يصبح خطرا على البلاد، فالاحتكار السياسي هو مرحلة متقدّمة على طريق النظام الشمولي… وهنا وجب أن أقول لساكن قرطاج إن محاربة الاحتكار السياسي أهمّ اليوم لاستقرار البلاد من محاربة الاحتكار الاقتصادي في بلاد اقتصادها يترنح دون “فودكا” من خمارات موسكو… وبعيدا عن “كأس ويسكي” من بلاد العمّ سام…