منذ شهر نوفمبر الماضي صار للتونسيين كلّ يوم خميس موعد قارّ تقريبا مع انعقاد مجلس الوزراء الذي يلقي فيه رئيس الجمهورية خطابا أو هو “مونولوغا ” مطوّلا، بحضور جمع من الوزراء الصّامتين الذين يجلسون كالتلاميذ في حضرة مؤدّب الصبيان ، فلا نراهم إلا في لقطات سريعة مقتضبة و لا ندري حتّى ما الذي يخطه بعضهم على أوراق أمامهم أثناء خطابات الرئيس الطويلة المتوتّرة والموتورة .
ماذا يفعل الوزراء في هذه المجالس التي لا يحضرون فيها إلا للمصادقة على كلام الرئيس ؟
ما الذي ينتظره بعضهم ليقدّم استقالته بعد أن أدرك الشعب ـ و قد يكونون أدركوا هم أيضا ـ أنهم ليسوا غير واجهة لحكم الفرد الواحد، و أنّ وجودهم صوري فلا قرار إلا قراره و لا أمر إلا أمره …؟
في كلّ خطاب يكتشف التوانسة أنّ الرئيس في واد و الشعب في واد آخر، همومه غير همومهم و أولوياته غير أولوياتهم … توقعنا في مجلس الخميس الفائت أن يتطرّق الرئيس إلى الأزمة المالية و الاقتصاديّة التي تعيشها البلاد، خاصّة مع تذمّر الشعب من تأخر صرف الأجور و الارتفاع المشطّ للأسعار و فقدان عديد المواد من الأسواق … إلاّ أنّه عاد إلى تكرار مواضيعه المفضلّة كتطهير القضاء و الفصل بين الوظائف لا بين السّلطات و تهديد خصومه و توعّد من ينكّلون بالشعب، ثمّ مرّ الى الحديث عن الاستشارة الالكترونيّة التي استبق نتائجها و قدّم لنا خيارات المشاركين فيها و هم لا يتجاوزون 2 % من النّاخبين التونسيين على أنها نتائج نهائية تعبرعن توجهات المواطنين … متناسيا أنّ الكثيرين غير مكترثين بها أصلا أو أنهم لا يعلمون بوجودها تماما، في حين عبّر طيف كبير من المهتمين بالشأن السياسي عن مقاطعتهم لها بسبب استغلالها لموارد الدّولة في تحقيق رغبات الرئيس ومشاريعه الشخصية من ناحية، و بسبب عدم ثقتهم في نتائجها من ناحية أخرى … إذ يعتبرون أن نتائجها جاهزة مسبقا … و ما تركيزه في خطابه على نقاط النظام السياسي وسحب الوكالة والاقتراع على الأفراد والموقف من القضاء، إلا تأكيد على الغاية الحقيقية من هذه الاستشارة، و أن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية و غيرها من المحاور المدرجة فيها ليست إلا لذرّ الرّماد على الأعين .
و بعد أن خلنا أنّنا قطعنا مع مفاهيم المبايعة والمناشدة و الرئاسة مدى الحياة و النسب الهائلة التي تقارب المائة في المائة، ها أنّنا نعود إليها في عهد الرئيس المنتخب الذي استغل الآليات الدّستوريّة لينقلب عليها في ما بعد … من أجل إرساء النظام الذي يحلم به، فلا عجب إذن أن يركّز على الجوانب السياسيّة و أن يهمل الجوانب الاقتصاديّة الحارقة …
لا يحدّثنا رئيس الجمهوريّة عن الصعوبات الآنيّة الملحّة، و لا يبدو أنّه يبحث لها عن حلول عاجلة، و في المقابل يحدّثنا عن مشاريع عملاقة يدغدغ بها أوهام مريديه و يرضي نرجسيتهم و يثير سخرية غيرهم ممن ينظرون إلى الواقع بعقلانيّة … فبعد الحديث عن الشركات الأهليّة و عن المدينة الصحية بالقيروان، أسدى أوامره بالأمس للشروع في دراسة مشروع القطار السريع العابر للبلاد من شمالها إلى جنوبها …
نعم من حقنا أن نحلم بقطارات سريعة و بكبسولات متطوّرة لنقل البضائع و بموانئ كبيرة تناسب موقعنا الجغرافي وبمحطات سياحيّة و استشفائيّة عالية الجودة و بمشاريع عالميّة عملاقة لتوليد الطاقة الشمسية في الجنوب .. من حقنا أن نحلم حتّى بربط شطّ الجريد بالبحر و مدّ قنطرة بين الهواريّة و بنزرت … فدون حلم لم تتقدّم البلدان و دون حلم لم تتطوّر الشعوب … و لكن كيف لشعب تعاني حكومته الويلات لتصرف أجور موظفيها و جرايات متقاعديها (أجور جانفي التي تأخّر صرفها لأكثر من أسبوع لم يتمّ توفيرها إلا بالضغط على البنوك و الاقتراض منها و بتحويل القرض الجزائري إلى الدينــار التــونسي أمّا أجور فيفري فهي في حكم المجهــول) … كيف لهذا الشعب بأن يحلم و أن يتفــاءل بالمستقبل و مؤشرات حــاضره رمــاديّة غــائمة …
تساءل المواطنون بأي تمويل سينجز هذا المشروع و أيّة أموال سترصدها الوزارة للدراسات الأوّلية المطلوبة منها و قطاع النّقل في بلادنا يعيش أسوأ فتراته .. و اعتبروا أنّ إصلاح النّقل العمومي و الحافلات و الطرقات أوْلى حاليّا من المشاريع الكبرى في وضع كهذا، فكم من مشروع سابق مازال إلى اليوم مركونا في الرفوف لغياب التمويل … فلماذا هدر الوقت و الطاقة في مشاريع و أفكار جديدة ؟
يتساءل المواطنون و لسان حالهم يقول حققْ لنا أحلامنا و مشاريعنا المؤجلة ثم سنحلم معك بمشاريع جديدة في عهدتك القادمة أو في عهدتك التي تليها .. و اللتان تبدوان مضمونتين بالنسبة إليك بعد النتائج الباهرة التي ستحققها استشارتك !
الرئيس وجد وضعا ماليا صعبا هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، و لكن لا يجب أن ننسى أيضا أنّ تصريحاته (خطاب “أمك صنافة”) و سياساته ( تضييق الحرّيات و الاعتداءات المتكررة على المتظاهرين المعارضين له) فـاقـمت الوضع في الأشهر الأخيرة و قلّصت حظوظ البلاد في الحصول على التمويلات الأجنبّية …
لكن و إن أغلقت بعض البلدان و القوى العظمى أبوابها في وجه تونس، فلماذا لا يغادر قصره و يقوم بجولة افريقيّة أو آسيويّة يبحث فيها عن استثمارات جديدة و فرص تعاون و استثمار مغايرة للمألوف … لماذا لا يستلهم تجارب هذه البلدان في التطوّر و هو المغرم بالتاريخ و الجغرافيا و المستشهد دوما بتجارب الآخرين ( الشيلي ، فينزويلا …)؟ لماذا لا يدرس تجربة البلدان الافريقية التي حققت نسب نموّ مرتفعة بعد خروجها من الحروب الأهليّة؟ لماذا لا يبحث في أسباب نجاح النمور الآسيويّة و ينطلق منها في إصلاح فعلي للمسار و في بناء تونس جديدة؟ لماذا لا يستدعي شبابنا المتألّق الذي أثبت نجاحه عبر العالم و يطلب منهم أفكارا وحلولا مجدّدة تخرج بالبلاد من هذه الهوّة التي تنحدر إليها مسرعة ؟؟ خاصّة أنهم برهنوا على ذلك مرارا وتكرارا في عديد المجالات، و لعلّ آخر مثال يمكن استحضاره هو الحدث الذي عشناه الأسبوع الماضي والمتمثل في الترفيع في رأس المال بـ 100 مليون دولار لستارت آب start up تونسيّة هي ” انستاديب INSTADEEP ” و هو المبلغ الأهم على الإطلاق في افريقيا بمساهمة كلّ من بيونتاك و غوغل و غيرها من الشركات العالميّة .INSTADEEP شركة تستثمر في الذكاء الاصطناعي أنشأها كلّ من كريم بقير و زهرة سليم سنة 2014 و انطلقت بإمكانيات بسيطة كلّ رأسمالها 5 آلاف دينار و حاسوبان لتتعدّد بعد ذلك فروعها في العالم و لتحرز على ثقة كبريات الشركات العالميّة …
فئة كبيرة من شبابنا قادرة على صنع التّحدّي وعلى تغيير وجه البلاد فلماذا نهملها و لا نستعين بخبراتها وطاقاتها ؟