جور نار

الحمّـامـات تستبدل حُلّتها وصــورتها !

نشرت

في

شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك

هي سيّدة السُّفوح المحتشمة، بظلّها تغطي

ساقها ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة

تقف كأنها جالسة،وتجلس كأنها واقفة

تحيا أختاً لأبدية أليفة وجارة لزمن

يعينها على تخزين الزيت النوراني وعلى

نسيان أسماء الغزاة…

محمود درويش (شجرة الزيتون)

<strong>منصف الخميري<strong>

مدينة الحمّامات أصبحت في المخيال الوطني العام مرادفا للسياحة الشاطئية والترفيه داخل الفنادق والمرافق السياحية عموما، ثم وربما في درجة ثانية، يأتي الحديث عن حقول القوارص والحمضيات التي بدأت في الانكماش والتقلص أمام زحف البناء والتوسع العمراني طلبا لاعتدال الطقس وهدوء النفس. لا أحد منّا توقّع أن يأتي يوم نرى فيه نُزلُا مغلقة وعمّالا مُسَرّحين بالآلاف وشوارع سياحية مقفرة وشواطئ بلّورية مهجورة إلا من بعض التونسيين صيفا.

ثلاث رجّات كبرى استهدفت القطاع السياحي وأصابته في مقتل :

مناخ الخوف الذي أشاعته الجماعات السلفية التي ركّزت بعض تحركاتها على “أسلمة الشواطئ التونسية” من خلال إقامة التجمعات الدعوية والاستعراضية بمنصّات عائمة وبشرطة سلفية تنظم حركة المرور (الحمامات 2012) والتبشير بإرساء دعائم سياحة حَلالْ خالية من كل “مظاهر التفسخ والانحلال”.

مناخ الإرهاب الذي خيّم على أغلب مناطق البلاد ولكن خاصة تلك الضربات الموجّهة بعناية والتي استهدفت المنطقة السياحية بسوسة ومتحف باردو … لجلب أنظار العالم وتدمير قطاع يعتبرونه مصدرا لكل الشُّرور.

مناخ الكوفيد وتوقّف توافد السيّاح وتبخّر الأمل في عودة قريبة لسالف النشاط السياحي في بلادنا.

وبالرغم من تحفظات الخبراء والمتابعين القائلة بأنه من الحيوي بالنسبة إلى اقتصاد تونس ألا يجعل من السياحة العمود الفقري لتحقيق التنمية والنمو، خاصة حين يكون ذلك على حساب قطاعات إستراتيجية أخرى، فالسياحة قطاع “حسّاس” يتأثر سريعا بمتغيرات محيطه محليا وعالميا ويستهلك ماءً كثيرا قد يكون قطاع الفلاحة أجدر به واستنفد مخزونا عقاريا ضخما يُقاس بآلاف الهكتارات (والتي انتُزعت من مالكيها الأصليين بأثمان تُقارب المجانية لينعم بمردودها السياحيون الخواص فيما بعد)… بالرغم من كل هذه العاهات، ظلت السياحة التونسية تدرّ  مداخيل بالعملة الصعبة تحقق بعض التوازن في الميزان التجاري المختلّ وتخلق حركية اقتصادية وتجارية تستفيد من مردودها شرائح واسعة من المجتمع.

الذهب الأخضر في نجدة ذهب الشواطئ

كل الجهات التونسية بدون أي استثناء تقريبا تعيش خلال الفترة الممتدة من نوفمبر إلى أوائل مارس من كل سنة على وقع جني صابة الزيتون ورحي الزيتون وتذوّق زيت الزيتون وتخزين بعض المؤونة من هذه المادة الأساسية في مأكلنا وحتى في عناية بعضنا بفروة رأسه ومقاومة منسوب الكولسترول في دمه وتعزيز صحّة جهاز مناعته.

والطريف أن ملكية الزيتون في بلادنا قد تكون القاسم المشترك الأكبر بين الناس (مع تقدير الاختلاف في الدّرجة)، فمن زيتونة واحدة تتم العناية بها وتربيتها وسقيها وتلقيمها وتقليمها إلى ستّة “أعواد” أو عشرة أو ضيعات واسعة ممتدة على مدى البصر.

الحمّامات الفلاحية لا تشذّ عن هذه القاعدة : تخلع جُبّتها السياحية خلال أربعة أشهر كاملة لتشهد الجهة من وسط المدينة إلى أقاصي ريفها حركية اقتصادية واجتماعية نشيطة بل حُمّى صحية تعمّ أرجاء المدينة ويبدأ الاستعداد لها منذ نهاية فصل الصيف.

سلسلة طويلة من السواعد النسائية والرجالية تنخرط في هذا الحراك الأخضر وتشدّ الرِّحال إلى قِمم “سيّدات السهول” وخمائلها وسط أجواء احتفالية خاصة تؤثثها مواقد النار والشاي الأحمر والسلالم الهرميّة وبعض الأهازيج النسويّة   :

الجَنْي يُشغّل الآلاف (تونسيين وأفارقة ! ) ولكن من حولهم هناك من يتولّى التنقية والفرز والتعبئة وهناك مالكو الجرّارات والشاحنات وسواقها ينقلون حبوب الزيتون إلى المعاصر التي تُشغّل بدورها المئات وهناك بائعو مستلزمات الجني من سلالم وأفرشة وأمشاط وأكياس وأواني تخزين… وهناك المُجمّعون الصغار والكبار وأخصائيو التقليم الذي يحدث مباشرة بعد عملية الجني أو أثناءه بالإضافة إلى عمليات الحرث والسقي في مراحل لاحقة. وكل هؤلاء يجنون أموالا “ذات سيادة” لكونها لا تعترف بتقلبات المشهد العالمي.

الاستنتاج الأول : هو أن اعتبار زراعة الزيتون قطاعا ذا أهمية استراتيجية في تونس له ما يبرره باعتبار أن تونس تحتل المرتبة الثالثة عالميا بين الدول المصدرة لزيت الزيتون تسبقها في ذلك إيطاليا واسبانيا. أما على مستوى الإنتاج فتأتي تونس إجمالا ضمن الدول الستة الأكثر إنتاجا في العالم حيث تحتل المرتبة الرابعة حين يكون المحصول جيدا (1.8 مليون هكتار من الزراعات). كما يمكن الاستنتاج أيضا بأن شجرة الزيتون هي أكثر عنوان يختزل التونسيين في العطاء والقدرة على التكيّف والتحمّل والخُضرة الدائمة والتعمير (بمعنى طول العمر).

الاستنتاج الثاني والأهم ربما هو  أن هذا البلد الصغير مساحة، ذا الشعب المحدود عددا باستطاعته تماما أن يتربّع على عرش الكرة الأرضية لو يعرف مُسيّروه كيف يجنون ثِمار أجود أنواع الزيتون في العالم ويُثمّنون أرفع أصناف التمور ويستفيدون من ثروة فوسفاتية فريدة ويُرسمِلون طاقات وذكاءات شبابية متنوعة… ولكن يبدو أننا الأوائل دائما في ما هو إجمالي ولكن نتقهقر إلى أسفل الترتيب عندما يبدأ حديث الجودة والانتاجية والتفاصيل.

(بالنسبة لمعدل الإنتاج بالهكتار، تحتل تونس المرتبة الأخيرة بين الدول التسعة المنتجة للزيتون في الاتحاد الأوروبي وإقليم الشرق الأدنى وشمال إفريقيا. وفي الوقت الذي يقارب فيه الإنتاج في شمال تونس متوسط الإنتاج بالمغرب، فإن معدل الإنتاج بجهات الوسط يقلّ مرتين عن مثيلاتها في الدول المنافسة، كما يقل في الجنوب بما يزيد عن أربع مرات. )

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version