… إن الراكب التاسع دخل الفلك خلسة عنكم و عنّي. فما درى بوجوده أحد غيري، و لا كان يبصره و يسمعه أحد غيري. فكان رفيقي الدائم في الليل و النهار، و بيده كانت إدارة دفة الفلك. لا تسألني عنه زيادة بل احذر ألاّ تفسح له مكانا في الملجإ الذي أوصيتك به. فقد قال لي إنه سيعود لينقذ العالم من طوفان النار. هذه هي وصيتي إليك يا بنيّ، فاعمل بها.“
و عمل سام بكل ما أمره أبوه.
و عندما انضمّ نوح إلى آبائه دفنه بنوه تحت المذبح في “الفلك” التي بقيت لأجيال كثيرة من بعده محافظة بالفعل و بالروح على وصية قاهر الطوفان.
مرّت قرون عدّة و الفلك آهلة برفاقها التسعة الذين ـ و إن تغيرت منهم الوجوه و الأسماء ـ ما برحوا أمينين للتقاليد و الطقوس المرسومة لهم منذ البدء. إلا أنهم على كرّ السنين أخذوا يتقبّلون من المؤمنين عطايا فوق حاجاتهم الجسدية بكثير. فكان من ذلك أن مقتنيات الفلك من عقارات و فضة و مجوهرات أخذت تزداد سنة بعد سنة.
و دامت الحال كذلك لبضعة أجيال خلت إذ حدث أن توفّي أحد التسعة. و حدث على إثر وفاته أن جاء الفلكَ رجلٌ غريب و طلب أن يُقبل كواحد من الجماعة. و ووفقًا لتقاليد الفلك المعمول بها منذ تأسيسها كان لزامًا على الرئيس، و كان يُلقّب عندهم بالمتقدم، أن يقبل ذلك الغريب لأنّه أول طالب جاءه بعد وفاة رفيق من الرفاق. لكن المتقدم في ذلك الوقت كان رجلاً مستبدّ الرأي، متوسط الإيمان، قاسي القلب. فما راقه منظر الغريب الذي كان زريّ المظهر، و هزيلا من شدّة الجوع، و مثخنًا بالجراح. لذلك قال له إنه ليس أهلاً للانضمام إلى الجماعة.
أما الغريب فألحّ في طلبه، و إلحاحه ما كان ليزيد المتقدّم إلاّ إلا كرهًا له و غضبًا عليه حتى إنه أمره بالانصراف من أرض الدير في الحال.
غير أن الغريب كان ملحاحًا و قوي الحجّة. فما انفكّ عن أربه. و في النهاية تمكّن من أن يحمل المتقدّم على قبوله خادمًا في الفلك.
من بعد ذلك بقي المتقدّم زمانا طويلاً يترقب من العناية أن تبعث إليه بمن يحلّ محل الرفيق المتوفّى. لكنّ أحدًا لم يأت إلى الفلك بقصد الانضمام إلى جماعتها. و هكذا لأول مرة في تاريخها كانت الفلك تؤوي ثمانية رفاق و خادمًا.
مرت على ذلك الحادث سنوات سبع تعاظمت خلالها ثروة الفلك إلى حدّ أنّ إحصاءها لم يبق في الإمكان. فقد أصبحت تملك كل القرى من حواليها على مسافات شاسعة. فانتفخ صدر المتقدم غبطة بذلك و لانَ للخادم الغريب بل كاد يحبه لاعتقاده أنّه كان طالع سعد عليه و على الفلك.
لكن السنة السابعة ما كادت تنتهي و تنبلج الثامنة حتى بدأت الأمور تتقلّب بسرعة خاطفة، فالجماعة التي كانت إلى ذلك الوقت وادعة آمنة أخذت تتخمر و تفور. و ما خفي عن المتقدم أن سبب ذلك كلّه ما كان إلا الخادم. فأقرّ طرده في الحال. لكنه، و يا للأسف، أدرك أن الفوت قد فات. فالرفاق بقيادة الخادم ما كانوا ليصغوا إليه أو ليتقيدوا بقاعدة أو قانون أو تقليد. بل إنهم في سنتين فرّقوا كل مقتنيات الفلك من منقول و غير منقول واهبين الأملاك الشاسعة للشركاء الذين كانوا يعملون فيها. و في فجر السنة التاسعة هجروا الفلك. بل الأفظع من ذلك أن الخادم الغريب لعن المتقدم فسحره بلعنته و ربَطه إلى أرض الدير و جعله أبكم حتى هذا اليوم.
تلك هي أسطورة الفلك كما سمعتها في جبال الآس و اللبان، و في ظلّ قمّة المذبح.
و كثير ٌهم شاهدو العيان الذين أكّدوا لي أنهم في مختلف الظروف ـ أحيانًا في الليل و أحيانا في النهارـ أبصروا ذلك الراهب متجولاً في ساحات الدير المهجور. لكن أحدًا منهم ما تمكن يوما من أن يبتزّ كلمة واحدة من شفتيه. و فوق ذلك، فالراهب كان يختفي بسرعة كلما شعر بوجود إنسان بقربه. و ليس مَن يعرف كيف كان يختفي و أين.
و ها أنا أعترف أن هذه الرواية سلبتني راحتي. فما كنت أتخيّل ذلك الراهب هائما على وجهه سنوات كثيرة في باحات هيكل قديم مهجور، و على رأس قمّة شاهقة قفراء كقمة المذبح، إلا أحسست نيرانا في دمي، و مهاميز في لحمي و عظمي، و سياطا في أفكاري، و أشباحا في عينيّ. و كلّها يدفع بي إلى القمة.