أمطرونا خلال العقود الأخيرة بأنه انتهى عصر الدّولة الرّاعية والمُرضعة، خاصة بداية من نهاية سبعينات القرن الماضي تحت تأثير الأزمة العالمية الشاملة، والتي كان من مؤشراتها البارزة انكماش النموّ الاقتصادي وتصاعد معدّلات البطالة وتنامي صعوبات تمويل التغطية الاجتماعية، وأنه قد حلّ محلّها نموذج آخر تتخلّى بموجبه الدّولة تدريجيا عن التزاماتها حيال شعبها وخاصة تجاه فئات الهامش الفقيرة، فتراجع الإنفاق العمومي في كل المجالات الحيوية مثل الصحة والتعليم والنقل وباقي المرافق العمومية … حتى كادت تتحوّل الدولة إلى مجرّد جابية للضرائب وجالبة للمتاعب والمصاعب.
لكن ما يُعتّمون عنه بإصرار هو أن الدول المحسوبة على الليبرالية الموغلة في رأسماليّتها مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وسويسرا والدول الاسكندينافيّة، مازالت توفّر أفضل الخدمات الاجتماعية المدعومة كليّا أو جزئيّا وتسنّ التشريعات وتُقرّ الإجراءات من أجل أن لا يبقى أحد على قارعة الطريق. وفيها توجد أفضل النظم التعليمية العمومية وأكثر المستشفيات العامة تطورا وأحسن الطرقات وأجود أصناف النقل العمومي… يُخفون هذا الدّور الاجتماعي الأساسي بعناية لمحاولة إيهامنا بأن “جريمة إهْمال الشّعوب” طالت كل شعوب العالم.
أما في تونس، التي بُليتْ على مرّ التاريخ بقيادات أمْسَكت بالسلطة لفترات طويلة أو قصيرة لكنها عجزت تماما عن التّأسيس لمقوّمات دولة قوية وعادلة ومجتمع متطور لا يضطر أبناؤه للهجرة وشبابه للنَّطْرة وحدود بلاده للكُنْطرة… في تونس، حتى بعض المكتسبات الثّمينة التي حقّقها أبناؤها بكثير من العناء والضّنك والإعياء، يتمّ تبديدها والتفريط فيها بشكل منهجي أمام أعْيُن حكومات رخوة ومؤسّسات طريّة تنام ملء جفونها ليلا وكأنها غير منزعجة مُطلقا ممّا يحدق بالتونسيين من أخطار وأهوال. فالإدارة استباحها بعض أولئك الذين جعلوا منها رُكنا من أرْكان “دَارْ بُوهم”، والطرقات باتت في أغلبها مسالك للصيد العشوائي، وتحوّل النقل العمومي إلى عُلبٍ قصديريّة مُنفّرة تنعدم فيها أبسط شروط الكرامة واحترام الذات البشرية، وأصبحت المدارس العمومية في أغلبها خيار من لا خيار له…
لكن التونسي مثل طائر الفينيق ينبعث دائما من جديد حتى بعد احتراقه تماما … ويظل راعيا لدولته مهما أمعنت في ترذيله
إن الذين يرعون الدولة التونسية حتى لا تسقط ويصونون عورتها حتى لا تتّسخ بقايا صورة التونسيين في مرآة العالم :
هم بنات تونس وأبناؤها الذين يحتلّون المركز الثاني عالميا من حيث نسبة الحاصلين على شهائد في التكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
هي عديد المؤسسات الجامعية التونسية الحاصلة على تأهيل أكاديمي دولي يمكّن خرّيجيها من التناظر بنفس الشروط ونفس الامتيازات مقارنة مع نظرائهم الأجانب في الساحات الأكاديمية والشغليّة العالمية.
هم بنات وأبناء المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنيّة بالمرسى IPEST الأفضل ترتيبا مقارنة بــ 122 معهدا فرنسيا يُعِدُّ لمناظرات كبرى المدارس الفرنسية للهندسة حسب المصادر ومقاييس التصنيف الفرنسية.
هم نواة الجامعيين الذين يتحدّون قلّة ذات اليد وضعف الموارد وتصلّب شرايين إصلاح منظومتنا التعليمية والتكوينية بصورة عامة، ويحققون نتائج تُضاهي ما يتحقق اليوم في أكبر الجامعات من حيث جودة التأطير ومستوى التأهيل.
هم الباحثون الشبّان في مجالات التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي من أمثال الرّيادي كريم بقير (صاحب مقولة “ليس هناك ما هو عظيم ونستطيع إنجازه في يوم واحد“) والمهندسة أمل مخلوف المتوجة بجائزة المعهد العالمي لعلوم الفضاء في هولندا، والمهندس خالد لطيّف المرتّب ضمن قائمة أفضل 30 باحثًا مؤثرًا في مجال الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء على مستوى العالم، ولينا نصيب العالمة التونسية في فيزياء الفضاء…وآلاف التونسيين المهاجرين الذين يساهمون بفعالية نادرة في مسارات البناء والإنشاء والتطوير والتحديث على المستوى الكوني.
هم الرياضيّون أمثال أنس جابر وروعة التليلي والحفناوي والملولي والجندوبي الذين لم يتمتّعوا بدعم يُذكر من الجهات الرياضية والإعلامية والسياسية الرسمية، لكنهم ثابروا وكسروا سلاسل المحلية الخانقة ليجدوا أنفسهم في أشهر الملاعب والحلبات العالمية يُنشدون “سواعد يهتز فوقها العلم… نُباهي به ويُباهي بنا“.
هم الأطباء والممرّضون التونسيون الذين لا يكاد يخلو منهم مستشفى أوروبي، لعبوا دورا حاسما خاصة خلال أزمة الكوفيد عندما كان فعل التطبيب في تلك الظروف الاستثنائية فعلا قتاليا لم تعرف الانسانية مثيلا له على مرّ التاريخ… فأطلقوا عليهم “ميدعات قرطاج المُنقذة“.
هي السّواعد الزّارعة والمُخصّبة والمُنتجة لزيت الزيتون المتقدّم على زيت إسبانيا وإيطاليا واليونان في جلّ المسابقات العالمية.
هم الفلاحون والمستثمرون الذين يكدّون ويزرعون ويعمّرون الصّحراء نخيلا وزيتونا… بصورة فرديّة.
هم الفلاحون الذين لا يتعقّلون جيدا معاني مفهوم “السيادة الوطنية” لكنهم ينذرون حياتهم للمحافظة على بذورنا ومشاتلنا التونسية المُبيّئة وعدم التّعويل على خلايا الإرشاد الفلاحي النائمة.
هم العسكريّون والديوانيّة الذين لم يسلّموا سلاحهم يوما رغم ما طالهم من تصفيات وخيانات والذين يُطيحون يوميا بأكوام من المال المهرّب والسّلاح المُنيّب… ولا يقبلون المساومة.
هم شريحة هامة من المعلمين والأساتذة المرتدّين إلى درجة الصفر على سلّم “الأجور الضّامنة للحدّ الأدنى من الكرامة والعزّة والاعتبار”، لكنّهم يتعبون من أجل الوصول بتلاميذهم إلى مستوى القدرة الدنيا على مواجهة استحقاق الامتحانات الوطنية التي “لا تجامل ولا تعادي”.
هم كل أولئك الذين جعلوا من تونس وإلى حدّ اليوم (رغم تراجع منسوب الاحساس بالأمن على الطرقات وفي الفضاء العام)، بلدا تجوبه من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب دون أن تعترضك نقطة أمنية واحدة ولكن دون أي اعتراض مناوئ أو مهدد لسلامتك في نفس الوقت (وقد حدث معي مثل هذا شخصيا ومع أصدقاء لي خلال كل السنوات الأخيرة).
… وغيرها من المؤشرات الأخرى الدالّة على أن التونسيين يتولّون بأنفسهم ما هو محمول على دولتهم لوعيهم بأن الوهن الذي أصابها ظرفي وزائل لا محالة، وأن التاريخ سيسجّل أنهم شعبٌ رعى نفسه حتى يبقى على قيد الأمل ورعى دولته مانعا إيّاها من التهاوي والتفتّت.
قد يقول بعضكم، نعم ولكن هذه النماذج تبقى معزولة والصامدون قلّة قليلة ولا مستقبل لشعب تخلت عنه دولته و”ما مستقبل المجتمعات التي تُشغّل كل المكابح من اجل الهزيمة الجماعية خوفا من الانتصارات الفردية” ؟ كما تساءل مؤخرا صديقي شهاب الصالحي الكفاءة التونسية المهاجرة هو الآخر والذي يساهم في صنع أمجاد منظومات في بلاد غير بلادنا، لكنه يساهم في صنع صورة ناصعة لبلده تتوفّر بالتأكيد على قيمة مضافة في مستويات أخرى… نعم، فإن دواعي الإحباط أعلى منسوبا من بؤر التفاؤل والثقة بالمستقبل، لكننا سنهزم “السيستام” يوما ونطوّعه لما نُريد، فأغلب السيستامات مهما كان عتوّها هزمتها إرادات فردية وطموحات جيّاشة نمت في رحم اليأس.