منبـ ... نار

الشهائد الجامعيّة المزيّفة … أو عن بؤس الجامعة

نشرت

في

لا شكّ أن مجْـتـمعًـا يُرغّب أبناءه وبناته من كل الفئات ،عاملين أو عاطلين، في ارتياد المعاهد والجامعات حرصا على الاستمرار في طلب العلم واِقتناعا بأن التكوين لا حدّ له، لا بالسّنّ ولا بالدّرجة، هو في ظاهره مجتمع حيّ، ولا يسَعُ أيّ ملاحظٍ إلاّ أن يشكـر الفعل ويـثـني عليه. وأمّا أن يكون خيار الالتحاق بالجامعات والاستمرار فيها هو خيارُ مَن لا خيار له، بحيث يُدفع له الطالب دفعا بعد أن تفشل البنية السياسية والاجتماعية في خلق خيارات بديلة أو فرص أخرى، فـيصبِح الالتحاق بموجب ذلك أفضل من القعـود. لِيكـون الاستمرار في الجامعة هو فقط مجرّد استمرار، لا رغبة فيه ولا قناعة به ولا اقتدار عليه. وتلك هي الطامّة الكبرى على الجامعة وعلى خرّيجيها من “الدكاترة” الذين لم يعد لبعـضهم منها سوى الاسم أو “اللقب”.

<strong> تـوفـيـق عـيّـادي<strong>

إن ما ينتظره مجتمع ما أو ما يعْـتـقِـده حول الجامعة، هو أن تكون منارة حقـيـقية لتحصيل العلوم وتهـذيب السلوك في المستوى المعرفي والمنهجي والإيتيقي بالأساس، وهذا هو دورها المُـفـترض، أمّا وأنـّـها جـزءٌ لا يتجزأ من مجتمع مأزوم في مستويات عدّة، اجتماعيّا وسياسيّا وقيَميّا، فمن الطبيعي جدّا أن ينعكِس ما يعتمل في المجتمع – كحقـْـلٍ أشمل وأوسع – على ما يعتمل في “الحقل الجامعي” كما يسمّيه بيار بورديو. وربّما لأجل ذلك أكـّـد عالم الاجتماع جاك هوثر كوينان: “أن تكون الجامعة في أزمة فذلك أمر بديهيّ”. لكن هذه البداهة في الإقرار بتأزّم الجامعة الضروري والذي بدا لدى كوينان كتحصيل حاصل، لا أعتقد أنه يَطال الأهداف النواتيّة للمؤسسة الجامعيّة بإطلاق، بقدر ما يُقرّ بالمُـنـتهى الحتمي لكل جامعةٍ تـشـتغِـل وِفـقـًا لطرق مخصوصة، لا تخرجُ عن ” الخوف والعمى والتواطؤ”، بنفس عبارات كوينان.

 إن أزمة الجامعة كما عبّر عنها بيار بورديو في قراءته النقدية لـ”الحقل الجامعي” منذ أمَدٍ (ثمانينات القرن الماضي) وأعاد طرحها جاك كوينان في العشريّة الأخيرة، لا أعـتـقـد أن الجامعة التونسية بمنأىً عـن مثـل هذه الأزمات، رغـم الاختلافات العميقة… حيث كان الكثير من أوْجُه أزمات الجامعات الغربية (باريس أو جينيف أو لندن) يعود في بعض ملامحه إلى التأسيس “المذهبي” أو إلى بعْـث التيارات الفكريّة أو اجتراح منهجيات التحليل والتفكيك، كل ذلك بغرض ترسيخ القدم في الجامعة وجمْع “المريديـن” (تلامذة)، هي ـ وبشيء من التعـسّف ـ أشـْـبَهُ بـرغبة في بناء “سكولائيّة” جديدة، لا تخلو من إبداع وتـفكـير ورؤى، رغم ما قد يعتريها من توتّر إيديولوجي أو حسابات مصالح. أمّا شأن أزمة الجامعة التونسيّة فهو أقلّ جدارة وأقل عمقا وأقل مسؤولية تجاه مستقبل المعرفة وأمل الحياة وأمانة العلم. وهي أزمة منحصرة في الأنصِبة والأرقام من الساعات الإضافيّة مدفوعة الأجر رغم عدم الإنجاز في الكثير من الأحيان، أو منحصرة في عدد الطلبة المؤطّـَـرين، وترفيع أجر التأطير وخصومات حول الحظ من الدروس والامتحانات، أو في الأحقيّة التمثيلية للجامعيين (في أبعادها النقابية والسياسية).

هذا المقدار من التأزّم الذي اِنعكس وينعكس باستمرار على المجتمع والتربية، لا تتحمّل فيه الجامعة المسؤولية وحدها، بل يتحمّل المجتمع والدولة جزء أساسيا من أزمة الجامعة وتـدهْـور أوضاعها معرفيّا واِيتيقيّا وماديّا… فكِلا المجتمع والدولة لم يُقدّرا العلم حق قدْره ولم يُثـمّنا جهد الجامعة والجامعيين بالقدر المستحق، ولم يُعنيا العناية الفائقة بالبحث العلمي، لا من حيث القيمة ولا من حيث المُخصّصات، ذلك ما أدخل الكثير من الارتباك على الحقل الجامعي ومسّ أساسيات جامعيّة لا يُفترض فيها أن تتزحزح أو تتـزعزع، سيّما ما يرتبط منها بالتكوين والتأطير والتقييم. مما جعل دائرة التأطير تتوسّع من قِبل الأستاذ المؤطـِّرِ لتشـْملَ الكتابة أو الترجمة أو إعداد التقارير بدلا عن الطالب المعنيّ. وصرنا نسمع عن خدمات تـُـعْـرض للمساعدة في إعداد رسائل البحث بمقابل. لقد كنا نعتقد أن شهادة الدكتوراه هي فعلا تـتويج لجهدٍ بحثيّ يبلغ معه صاحبه/صاحبته مقدارا من المعارف والقيم بعد مسار من التحصيل والتنقيب، ويُتوّج هذا الجهد باعْترافٍ لصاحِبه بقدرةٍ مّا على تفكيك الأفكار وبناء المواقف وصياغة الاستنتاجات وتوليد المعاني. كل ذلك من أجل أغراض معرفيّة تستهدف تطوير البنى الاجتماعيّة وتعدّل من الحاضر المختلّ بهدف بناء مستقبل أوْطد، قدمُ العلمِ فيه أرسخُ وقدْرُ القِيم فيه أرفع.

  لقد أصبح اِحراز شهادة الدكتوراه، حصولا من غيْر تحصيل…  وهذا يحدث بتواطؤ القائمين على التوزيع، بحيث لم تعد الشهائد الجامعيّة شهائد علميّة بقدر ما أصبحت في معظمها زبونيّة، وتحوّلت بذلك إلى مصادر لتوْسِعة “باب الرّزق” ولم يعد غرضها توسعة مدارك الذهـن، أو تقريب مصادر المعرفة، ولا فاتحة لأبواب البحث العلمي مثـْـلما عهدناها عند أهلها الخـُـلـّـصِ لما هم عليه من موضوعيّة في بناء الحُكْم ودقّة في التحليل ومطابقـة في النـّـقـْـل، اِحتراما لمبدأ الأمانة العـلميّة واِلتزاما بأخلاقيات البحث العلمي. إن هـذا الذي يحدث في الجامعة لم يرتق بعدُ إلى درجة المشكل الذي يثير الاهتمام ولم يتحوّل إلى ظاهرة تستوجب الدراسة. فـقِـلّة هم الذين تجرؤوا على إثارة بعض مظاهر أزمة الجامعة من الجامعيين أنفسهم من خلال بعض المقالات حول “فساد الجامعة” من اِنتحال أو غِـش ( كمثال: الأستاذ بشير هروم/ الأستاذ حمادي بن جاب الله / الأستاذ الحبيب الجربي). وهذا ما يُـثير الحيْرة ويطرح السؤال : ألمْ يَعُـدْ لجامعـتِـنا أعْـمِـدة ؟ ؟

   إن جامعة بلا عُمُد ليستْ في مأمنٍ من شيء حتى من فساد القائمين عليها. ويبدو أن جامعتنا بعد أن غادرها كبار أعمدتها (من مثل : فاطمة الحدّاد وهشام جعيّط وعبد الوهاب بوحديبة وتوفيق بكّار…إلخ) شارفت على أن تكون يبابا، ومعظم ما تنتجه عروش خاوية، تختبئ وراء عناوين برّاقة لرسائل بحثيّة لا تـَـناسُب فيها بين لقب التشريف وقيمة المحتوى. وهي لم تحتفظ من “توابع” اِبن شـُهيْـد إلاّ بحُكـْم صوريّ تختزله عبارات التابع من الجان : “اِذهبْ فقد أجزتك”.هو في الأصل حكم يقتضي استحقاق المُجاز وجدارة المُجيز بعد عرضٍ وحوار وبيانٍ وسماعٍ، يترك أثرا طيّبا، معرفيا واِيتيقيا، فـيُجيـز المجيـز لأجلهما فقط وليس لِـسواهما. ويُشعِرنا عكس ذلك بالكثير من الأسى تجاه الجامعة، خاصة حينما يتناهى إلى مسامعنا أن الذي كان يُفاخر باِقتداره على الغش في كل امتحان قد صار بقدرة قادر “دكتورا”. وآخر أحرز شهادة دكتوراه حول مفكّر دون أن يقرأ له كتبه، في غياب الترجمة لأنه عييّ بن عييّ في جميع الألسُن. ولا يفوّت هذا العييّ بن العييّ (ع.بن.ع) فرصة إلاّ ويضع فيها شهادة الدكتوراه على الطاولة مزهوّا مختالا ومعْلنا : أنا ربكم الأعلى، فقط من أجل المزيد من “الزبائن”، رغم معرفة الكل بضحالته في كل ما تكلّم به، وهو قليل.

هي ممارسات ولاشك مخِلـّة بكل المعاني، وقد يذهب ضحيّتها أجيال وتتفكـّك معها المدرسة وتنهار بمفعولها القيم. لذلك فمَحْمول علينا واجب فضحِها واِستثنائها كممارسة. وحتى لا يُفهم هذا الحكم في غير وارده، كتحامُلٍ أو تبْخيسٍ لأيّ جهد، لا يفوتني في المقام الأوّل أن أتوجّه بأسمى عبارات الاحترام والتقديـر لكل طالبٍ بَـذلَ قـُصارى الجهد وبما يتـفـّق مع مُستوجبات الرّوح العلمي في الوفاء والعطاء، من أجل أن يُحرز شهادة الدكتوراه، يُعبّر عنها هو في المقام الأوّل، اِيتيقيّا ومعرفيّا، ولا تعبّـر هي (الدكتوراه) عنه باعتبارها مجرّد لقبٍ ينـْـضاف إلى مجرّد هيكل “ذهنيّ”‘ فارغ وبائس. ولمثل هذه الجامعات الخاوية التي توزّع الشهائد حسب الطلب نقول، لقد حقّ فيكم قول بيار بورديو “أنا  لا أعتدّ بجامعات توزّع الشهائد الفارغة”. ولهؤلاء الدّكاترة المحتالين أو المختالين والمزيّفين، لقد صدق فيكم قول الشاعـر :  

                   ملأى الـسّـنابل تـنـْـحني بتواضع  ***  والـفـارغات رؤوسهــنّ شـوامِــخ

أما في المقام الأخير، فالشـّـكر والامتنان والعرفان، كلّ موصول لِـكـُـلّ الجامعيين الذين يقومون بمهامّهم المنوطة بهم في البحث والتكوين والتأطير، وبجهد مُضْنٍ من أجل اِضطلاع المؤسسة الجامعية بدورها الريادي وربطها بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي … لتبقى الجامعة منارة للعلم والمعرفة ومنبعا للقيم الإنسانيّة. ومن أجل ذلك ندعـوهم لمقاومة “نظام التفاهة” الجامعيّ، وقد أضرّ بالصّالح العامّ وأصبحت معه الجامعة مجرّد “حقلٍ” لتوزيع الشهائد الفارغة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ فلسفة

                                                                                             

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version