جور نار

الشِدّة المستنصرية …في نسختنا التونسية ( (11)

نشرت

في

علي بن عيّاد مسرحي تونسي جريدة الحدث + الالكترونية

ما زالت مرحلة التعاضد في الستينات ملفا مغلقا و لغزا مفنوحا رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها … و ما تمّ تداوله خلال كل هذه المدة، لم يزد على ترديد النسخة الرسمية التي خرجت أيام محاكمة بن صالح … تجربة فاشلة، افتكاك أملاك، سوء تصرف، مغالطة للزعيم، خيانة عظمى … و أُقفل المحضر بتاريخه و ساعته …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

هكذا نحن مع كل قضايانا و تحقيقاتنا و تجاربنا و عموم تاريخنا الحديث … بـ “كام كلمة فاضية، و كام اصطلاح”  (بتعبير نجم) نختصر الحكم على مرحلة بكاملها، و نسلخها من دفترنا الوطني، بل نسلخ جلد هذه البلاد التي لا تدرس و لا تتعلّم … و لو تنظر إلى الكتب التي كُتبت عن فترة “المائة يوم” التي عاد خلالها نابليون إلى الحكم بعد هزيمته الأولى و خلعه و نفيه … لو تنظر إلى الكتب التي صدرت، و البحوث التاريخية، و الأعمال الأدبية و الدرامية، و عشرات التفاصيل و الخفايا الزوايا و وجهات النظر، عن فترة لا تزيد عن الثلاثة أشهر من تاريخ فرنسا … و تقارن ذلك بما نكتفي به نحن من جملتين جازمتين لتغطية أحداث جُلّى، و فترات بالسنوات و حتى بالعقود و القرون … تقف أمام هذا مدهوشا محبَطا، و تقول ما أرخصنا و ما أرخص تاريخنا و حياتنا كلّها !

دعنا من تعميمات الخطاب الرسمي و هات نتكلم عمّا شاهدناه بأعيننا أثناء تلك الفترة …

ريفنا الذي وقع تأميم أراضيه و إخراج المعمّرين منه، لم يبك طويلا على ذهاب هؤلاء … فقد تولّته إدارة تونسية شابّة متحمّسة، و استمرّت عملية التحديث فيه و توسّعت …. الآلات الزراعية العصرية تكاثرت و انتشرت و انتشر معها مستخدموها و تقنيوها سواء من الفلاحين أو من أبنائهم خرّيجي ما كان يسمّى بالتعليم الفلاحي … الأكواخ التي كانت تغطي قرانا و مرابعنا الخضر بسحابة من البؤس و التخلّف، عوّضتها شيئا فشيئا مساكن لائقة و أحياء بتمامها … هناك ما أنجزه مشروع “الشباب الريفي” و هناك ما أنشأته شركة “سنيت” التي تأسست في ذلك العهد … و مع المنازل المدارس و المستوصفات و مراكز الأم و الطفل، و أصبحت الولادة بالمستشفى هي القاعدة، و كذلك حملات تطعيم الصغار و الكبار ضد الأوبئة الكبرى …

المائدة التونسية ـ مدينة و ريفا ـ تعززت بمواد كانت من قبل حكرا على الأثرياء أو تقدم في ظروف لا يمكن أن يقال عنها صحية … الحليب و مشتقاته مثلا، وقعت آنذاك دمقرطتها بفضل شركة “ستيل” المحدثة وقتها بتعليبها المثلث الشهير ذي النصف لتر، و الزبدة في كسائها الفضي المستطيل … كذلك اللحوم، و البيضاء خاصة، في سياسة اكتفاء ذاتي و تشجيع للاستثمار الوطني استفاد منه باعثون شبان زمنها … و منهم الزوجان مؤسسا شركة “بولينا” الخاصة و التي أصبحت ما أصبحت بعد ذلك … و في هذا تكذيب لمن يزعم بأن الستينات قمعت القطاع الخاص، و الحال أنه وقعت تنميته جنبا إلى جنب مع قطاعيْنا الاقتصاديين الآخريْن: العمومي و التعاضدي …

مع المائدة، نتجول قليلا في البيت التونسي الذي بنته الشركة العقارية للبلاد التونسية (“سنيت”) … الباب المعدني و قضبان النوافذ من صنع شركة “الفولاذ” العمومية … المقابض و الحنفيات من إنتاج “المعامل الآلية بالساحل” … بوتاغاز المطبخ من صنع شركة “سوتاسير” بمنزل بورقيبة، و بدأت الأسر التونسية في استعمال هذا المرفق الذي احتلّ تدريجيا مكان الحطب و الكانون و بابور النفط … كما تم تأسيس التلفزة التونسية في تلك الفترة و استطاع مواطنونا تدريجيا رؤية نجوم الإذاعة و الفن و السياسة و الكرة على شاشات أجهزة من صنع شركة “الأثير” التونسية … نفس الكلام يقال عن ثلاجة “الرفاهة” التي بدأت تغزو دكاكين العطّارة قبل اقتحام البيوت … الكتب المدرسية كانت من طباعة “الشركة التونسية للتوزيع”، و اسطوانة الغناء من “شركة النغم”، و الكتاب الثقافي من “الدار التونسية للنشر” … و نقل كل هذا و غيره بين المصانع المنتجة و أسواقنا الداخلية كان يتم عبر شاحنات الشركة التونسية لنقل البضائع (اس تي ام) … التي كانت تتحرك ببنزين مصنوع في مصافي “ستير” على ميناء بنزرت !

نعود دقيقة للثقافة … مسرح الستينات كان هو الأخصب على كامل فتراتنا، ففيه حلّقت فرقة مدينة تونس عاليا و بعيدا مع علي بن عياد، و بدأنا في تأسيس الفرق الجهوية القارة مع فرقة الكاف و منصف السويسي … في تلك الفترة تأسس أيضا مهرجان قرطاج و مهرجان الحمامات مع مركز ثقافي دولي … و وُلدت أيام قرطاج السينمائية، و معها شركة “ساتباك” و أفلام عمر الخليفي الرائدة، و كان عدد قاعات السينما يزيد عن المائة وفق شهادة لأستاذي المخرج و الناقد فريد بوغدير … كذلك ازدهرت المكتبات العمومية و المتجولة و مكتبات المعاهد الثانوية التي ما زلت أحتفظ ببعض ما سرقته منها !

و أهمّ من هذا … و على عكس ما يقال اليوم، كان التونسي متفائلا مأمونا على غده و مستقبل أولاده … تعليم الستينات كان مجانيا بحق و إجباريا، كذلك الصحة التي يتبجّح البعض بمكاسبها اليوم بعد أن يعزلها عن سياقها التاريخي و “الرجال و النساء” الذين كانوا وراءها لا رجل أوحد … و مع الإثنين المرأة، نعم المرأة … تونيسية الستينات كانت لا تختلف كثيرا عن نظيرتها الأوروبية، تعليما و أناقة و تفكيرا… و كانت لدينا قائدات رائدات، من السيدة علياء، إلى راضية الحداد، إلى الشاعرة زبيدة بشير، إلى منى نور الدين و نعمة و علية و وحيدة بالحاج و درة محفوظ …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version