لمْسُ نار

الطائرة

نشرت

في

من النكت السوداء التي تم تداولها مؤخرا، أنه تم استدعاء مجموعة من الأساتذة و جلسوا في طائرة و عندما أغلقت الأبواب و أوشكت الطائرة على الإقلاع تم إعلامهم أن هذه الطائرة هي من صنع تلاميذهم و أنّ قائدها هو أحد تلاميذهم أيضا، عندها هرعوا نحو أبواب الطائرة محاولين الهروب و النجاة بأنفسهم باستثناء أستاذ واحد كان يجلس في ثقة و هدوء شديدين… سأله أحدهم : لماذا لم تهرب ؟ أجاب بثقة : إنهم تلاميذنا سأله آخر : هل أنت واثق أنك درستهم جيدا ؟ رد بهدوء : أنا على يقين أنها لن تطير.!!

<strong>عبير عميش<strong>

و لسائل أن يسأل… لم كانت ردة الفعل على هذه الشاكلة؟ فمن حاولوا الهرب ليست لديهم ثقة لا في أنفسهم و لا في طلبتهم.. و من بقي ثابتا في مكانه لا يختلف عنهم في شيء بل هو أشد منهم يقينا من ضعف تكوين طلبته إن ردود فعل كهذه لا يمكن إلاّ أن تزرع في أنفسنا الشك حول منظومتنا التربوية و نظامنا التعليمي فصنع الطائرة أو قيادتها ليست مهنة هيّنة و لا مهمة يسيرة بل هي تحتاج إلى مستوى تعليمي مرموق و إلى كفاءة و قدرات و طاقات مميزة فكيف وصل الطالب إلى هذه الدرجة من التعليم ثم كيف حصل على شهادته؟ هل بالارتقاء الآلي أم بالمحاباة أم بالرشوة أم بالغش؟

إنّ اللوم لا يمكن أن يوجه إلى التلاميذ و الطلبة فقط بل إلى منظومة كاملة ما لبثت تثبت يوما بعد يوم ضعفها و حاجتها إلى الإصلاح و التطوير. (صحيح أن هذه المنظومة نفسها أنتجت في فترة ما مجموعة من الأكفاء و المتفوقين، لكن أغلبهم غادروا البلاد لمواصلة التعلم أو للعمل في الخارج فتحرم منهم تونس و تستفيد بنبوغهم و كفاءتهم بلدان أخرى) إن عوامل عدة ساهمت في عصرنا الحالي في تدهور المنظومة التعليمية و تراجعها و هو ما يجعلها في حاجة سريعة إلى الإصلاح على جميع المستويات من حيث البرامج و كيفيات التدريس و التكوين و التوقيت و الضوارب و نوعيات الامتحانات و طرقها هذه الطرق التي صارت دافعا للغش.

و هو ما نعيش على وقعه هذه الأيام بمناسبة امتحانات البكالوريا خاصة مع تطور وسائل و أساليب الغش و اللجوء إلى الانترنت و التقنيات الحديثة و الاعتماد على آلات تصوير مبتكرة و أجهزة استماع متناهية الصغر… فلئن كان الغش قديما محاولة فردية من التلميذ بإدخال ما يطلق عليه ” الحرز ” أو” الفوسكوبي ” أو حتى مجرد النظر إلى ورقة زميله و استراق بعض الإجابات، فإنّ الغش في وقتنا الحاضر لم يعد أمرا فرديا بل صار في أحيان كثيرة بمشاركة و مباركة من العائلة و الأساتذة أيضا فهو يحتاج إمكانيات مادية و تنظيمية ليتحقق…

لكن ما نسيه هؤلاء هو الغشاشون لصوص الشهائد أنه إذا كان يمكن للفرد أن ينجح بالغش و يحصل على الشهادة بالغش فإنّه لا يمكنه أن ينجح في حياته المهنية لأنه يفتقد للتكوين الحقيقي و القدرة على التفكير و ابتكار الحلول.. فلنتخيل معا لو أن مهندسا نجح بالغش فكيف ستكون البناءات و الطرقات و الجسور و المنشآت التي سينجزها ! أو لنتخيل ثانية لو أن محاميا أو قاضيا نجح بالغش فكيف سيتمكن من الدفاع عن موكليه و استرجاع حقوقهم أو كيف سيكون عادلا في تطبيق القانون و إرساء العدل و هو لا يحفظ فصول القانون و لا يدرك تفصيلاته و تفرعاته و ثغراته !

أو لنتخيل ثالثة أن معلما أو أستاذا نجح بالغش فأي علم سيبلّغ و أية معرفة سينقل إلى تلاميذه و أيّ قدوة سيكون و أي إنسان سيبني! أو لنتخيل كذلك لو أن طبيبا أو ممرضا نجح بالغش فكيف ييشخص و يعالج و يداوي و كيف سيهتم بالمريض و ينقذ حياته و هو لا يميز بين الأمراض و أعراضها و اختلاف تشخيص كل نوع منها! و لنتخيل أيضا أن نائبا أو وزيرا نجح كذلك بالغش…

لا لا لن نتخيل فما نعيشه أسوأ من كل تخيلاتنا… و قس على ذلك في كل المجالات و الميادين فيمكن أن تنجح بالغش لكن لا يمكن أن تبني شخصية بالغش.. لا يمكن أن تبني وطنا بالغش، فهذه الظاهرة إن تفشت في المجتمع هلك المجتمع بأسره و إضافة إلى إصلاح المنظومة التربوية نحن في حاجة إلى فهم التحولات الطارئة في المجتمع و تفشي عقلية الغنيمة و الغورة و الفساد و الإفلات من العقاب فالغش ليس إلا مظهرا من مظاهر هذه التحولات و هو إن تمعنا جيدا لا يختلف عن الخيانة العظمى.. خيانة الأوطان، و مؤشر على انهيار القيم في المجتمع..

فلا كيان و لا وطن دون جدارة و كفاءة و حينما نتحدث عن الوطنية و الوطن يحق لنا أن نتساءل عن قادة طائرة الوطن في أي المدارس درسوا و أي طريق سلكوا؟ هل كانوا نجباء أم أشباه نجباء؟ و هل معهم ستقلع الطائرة؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version