العدد المدرسي هو الذي يتولّى… حَجْب الأبعاد الثمينة في شخصية التلميذ !
نشرت
قبل سنتين
في
دُعيتُ إلى الإذاعة الوطنية في المدّة الأخيرة للحديث بخصوص اللّغط الحاصل حول مسألة حجب الأعداد من قِبل المدرّسين وتأثير ذلك على معنويّات التلاميذ وأوليائهم، فدار حوار طريف بيني وبين قيدوم الإذاعيين عزالدين بن محمود تناول وضع المدرسة التونسية في ظل الصراع الدائرة رحاه بين النقابات ووزارة التربية ومسائل التقييم وقيمة العدد في المسار التكويني للتلميذ بصفة خاصة، حوار اخترت أن أنقله إليكم مطوّرا طيّ هذه الورقة لعلّ فيه بعض ما ينفع الناس.
سبعٌ من الأفكار الكبرى أثّثت ذلك اللقاء :
أولا :
انطلقنا بدايةً من اعتبار الحديث عن فترة الامتحانات التي تُطلِق عليها وزارة التربية اسم “الأسبوع المغلق” semaine bloquée مُوحيًا بجملة من المعاني السلبيّة المُثبّتة لفكرة “التعطّل” و”الانغلاق” و”الإقفال” و”الانسداد”، الشيء الذي يزيد حتما من إرباك التلاميذ وتسليط ضغط لا يُحتمل على أولياءِ أمورهم ويغرس لديهم فكرة أن كامل مصيرهم يتحدّد بشكل نهائي وحاسم خلال هذه الفترة الأشبه بفترة الحجْر الدراسي، تُستبدل فيها الكمّامات بالغمامات (تلك التي تستعمل لتغطية عيون الخيول للتقليل من الانحرافات البصريّة يمينا وشمالا)، ويُفرض خلالها التباعد الجسدي المُطبق بين الأقران درءًا لجميع أشكال الغشّ والفلَتان. فكان من الأجدى أن نُسمّيها “أسبوعا مفتوحا للتقييم” أو “فترة التمارين المُحتسبة” أو استبدالها أصلا بصيغ مرنة من التقييم التكويني المستمر يتخلّل المسار الدراسي دون ضغط أو إكراه.
ثانيا :
ليس هنالك ما هو أكثر نسبيّة من العدد، وأدوات القيس الكمّي المستخدمة من قِبل المدرّسين غير علمية وغير دقيقة بالمرّة تغلب عليها المزاجية أحيانا لأن مردود التلميذ متغيّر من لحظة إلى أخرى ومن مادّة إلى مادة، والعدد الذي يُسنده المدرّس يظل ذاتيّا يرتبط بتقدير حينيّ ومزاج شخصيّ حتى في أكثر المواد المحسوبة على العلوم الصحيحة مثل الرياضيات والبيولوجيا بشهادة عديد التجارب البيداغوجية في العالم.
رَوَيْتُ يومها إذاعيا قصّة طريفة حصلت معي عندما كنت مُدرّسا (أو هكذا أدّعي) لمّا طلبتُ من تلاميذي أن يقيّموا أدائي معهم داخل الفصل بإسنادي عددا من صفر إلى عشرين كما يفعل المدرّسون، فهناك من أعطاني 18 ولكن هناك من أسند لي 5 من عشرين. وسألتهم بعد ذلك، ما العمل في مثل هذه الوضعية وكيف أقيّم نفسي ؟ هل أعتمِدُ العدد 18 في تقييم حقيقة أدائي، فأنتفخ وأزهو بنفسي وأتشامخ … أم أعتمد العدد 5 فأقنط وأيأس وأُصاب بالإحباط، وبالنتيجة أنكّد عليكم حياتكم وأنغّص أيامكم ولياليكم؟ وهل أن طريقة احتساب “قيمتى المهنية” تتلخص في البحث عن معدّل حسابي بين العدد الأول والعدد الثاني (أي “18 + 5” / 2 = 11 ونصف) ؟ متوصّلين في الأخير إلى أن القيمة الحقيقية والثابتة لا هي 18 ولا هي 5 ولا هي المعدل بينهما، بل هي قيمة أخرى متحوّلة يستحيل المسك بها ولا يدركها إلا صاحبها كلما اشتغل بحدّة وقساوة على نفسه وحقيقة مؤهلاته ووجد سندا متبصّرا يساعده على ذلك.
ثالثا :
اختزال التكوين المعرفي في العدد المتحصّل عليه في نهاية كل فترة حجر مدرسي هو عملية خصي ممنهج للطاقات التلمذية، والقول بأن الأعداد لا قيمة لها هو أمر مضلّل وخطير كذلك. فإسناد الملاحظات التقييمية لا مفرّ منه لأنها بنّاءة بمعنى كونها تشكل مؤشّرات هامة يمكن البناء عليها، أي الاستئناس بها من أجل إدراك الهِنات وتلافيها ورصد النقائص وتحاشيها وذلك مهما كانت طبيعة الشبكة المعتمدة في التقييم (والتي قد تتجلى في شكل أعداد أو علامات أو ملاحظات أو درجات ملوّنة…). هذا بالإضافة إلى أن العدد الوحيد الذي له قيمة في واقعنا التربوية التونسي هو عدد الباكالوريا لكونه خاضعا لمقاييس إصلاح وطنية تُشرف على تحديدها لجان علمية مختصة من ناحية، وتُسند الأعداد على أوراق امتحان غير معلومة الأسماء من ناحية ثانية… وتُعتمد كمؤشرات كمية يتناظر بموجبها الناجحون على بقاع محدودة في الجامعة بعد الباكالوريا من ناحية ثالثة. ما عدا ذلك، يظل العدد ذا دلالة نسبية لا قيمة حقيقية له خارج سياق منطق تعزيز الدافعيّة والدّعم والعلاج التربويين.
رابعا :
العدد ظرفي ولا يعتبر درجة نضج الطفل ولا يعكس حقيقة اهتماماته أو نمط تعلّمه، وهي أبعاد أهم بكثير من مستوى العدد في حدّ ذاته لأنّه دالّ فقط على حفظ أو استيعاب محتوى معرفي محدد في لحظة محدّدة، وليس وفيّا بالمرة في أحيان كثيرة لطبيعة الجهد المبذول والحماسة الداخلية القوية التي تحدو أي تلميذ، في أن يتحصل على عدد يُناسب طموحه وتوْقه إلى الخروج من مربّع الفشل والإخفاق الذي تريده المدرسة مربّعا طبيعيا، مثله مثل مربّع النجاح والنبوغ… والحال أنه باستطاعة المدرسة أن تكون مربّعا شاسعا يتّسع لكل التلاميذ كلّ في مَلَكة أو مهارة أو اقتدار أو براعة مَا.
خامسا :
لقد حان الوقت لجعل الأعداد – والتي غالبا ما تكون ذاتية وظرفية ونسبية وغير دقيقة كما أسلفنا- تستأنس بمُعطى آخر لا يقلّ أهمية لأنه يُكمّل ما يُخفيه العدد ويحجبه، وهو الملف المهاري الذي من المفروض أن يرافق التلميذ من سنواته الدراسية الأولى إلى غاية الباكالوريا لاعتماده في التوجيه الجامعي. وما تخصيص عدد من البقاع في جامعتنا التونسية في شعب الإبداع الفني بصورة عامة وبعض المسالك الأخرى بناءً على ملفات (وليس مجموع نقاط) تضمّ أمثلة ونماذج ممّا أنتجه التلميذ في مجالات غير مألوفة تربويا لفائدة ما يُصطلح عليه بأصحاب المواهب، إلا دليل على أهمية هذه الأداة التقييمية الاستثنائية التي تعطي قيمة لأبعاد أخرى في شخصية التلميذ ومسيرته واهتماماته، لكنها ذات شأن في نحت مستقبله الدراسي والمهني والحياتي بصورة عامة.
سادسا :
الخلط بين العدد المتحصّل عليه وقيمة التلميذ “السياديّة غير القابلة للمفاوضة” أمر خطير ومُشلّ للعزائم، خاصة عندما يُستعمل هذا العدد لأغراض انتقائية واصطفائية تُعلي من شأن البعض وتُحيل على هامش الدورة التربوية البعض الآخر. فالتلميذ المتحصّل على علامة سيّئة في الرياضيات قد يتحصّل على أعداد مرموقة في اللغات أو الفنون أو الأنشطة التي تتطلّب مُطاوعة بدنية أو براعة يدوية، والتلميذ الحاصل على عدد أقل من المعدّلات المطلوبة ليس بالضرورة أقل ذكاءً أو أدنى مهارة من الآخرين، كما أن العدد الجيّد لا يعني دائما أن الطفل تعلّم حقيقة شيئا مهمّا أو اكتسب مهارة ستؤهله مستقبلا لتحمّل أعباء طرقات المعارف السيّارة ومواجهة السّيول المهارية الجرّارة.
سابعا وأخيرا : مُجازاة “الفاشلين” مُثمرة أكثر من مُجازاة النجباء
من الأجدر – كما يحدث في بعض البلدان- التأكيد على جعل مجالس الأقسام في نهاية كل فترة دراسية ثلاثية كانت أو سداسيّة، محطة تقييمية حقيقية يتم خلالها التوقّف الجدّي عند نسق سير التعلّمات وجودتها مادّة بمادّة وتلميذ بتلميذ، والخوض العملي في إجراءات التدارك ومعالجة التصدّعات في تكوين الناشئة لا مجرّد تلاوة عَجْلَى للمعدلات وتوزيع الملاحظات الكسولة المتراوحة بين حسن جدا ومستوى هزيل لا يعمل…
وفي هذا السياق، يحدث في بعض البلدان أن يتمّ تحديد قائمات بكل التلاميذ المتحصلين على معدّلات متدنّية في نهاية الثلاثي، ثم تقع دعوتهم لحصص تحفيزية يشرف عليها المدرّسون ويتمّ رصد جوائز مُجزية جدا يقع إعلامهم بها سلفا لو بذلوا ما يكفي من الجهد يجعلهم يتجاوزون المعدّل المطلوب، وكثيرا ما تُعطي هذه التجربة أُكلَها مع عدد لا بأس به من التلاميذ.