جور نار

العربيّة أُمّنا… واللغات الأجنبيّة “كْنايِنْها”

نشرت

في

لم أجد أفضل من الشاعر والرئيس السينيغالي سنغور من بين كلّ الذين كتبوا عن علاقة الأفارقة أو بعض العرب باللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية وخاصة من بين السياسيين والكتّاب والمُبدعين بصورة عامة. كان يقول “نحن السياسيين والأدباء الأفارقة نشعر بنفس درجة الحرية في اللغة الفرنسية كما في لغاتنا الأم تماما… لأن الحرية تُقاس بمدى قوّة الأداة التي نستعملها وتقاس أيضا بدرجة العمق الذي يكون عليه خطابنا وإبداعاتنا”.

<strong>منصف الخميري<strong>

ومن المُفارقات في مسيرة ليوبولد سنغور السياسية والثقافية عموما أنه عندما أنتُخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية (سنة 1983 في الكرسي السادس عشر/40) مثله مثل كبار اللغة الفرنسية وفرسانها كمونتسكيو ودوما وكليمنسو ويورسنار وآسيا جبّار ولامارتين ودورميسّون وراسين وهوغو وكورناي وسيمون فايل… قُوبل بشيء من الاستهزاء في بعض الأوساط الشبابية السينيغالية التي اعتبرته “طوبابا” أبيض مُلوّنا بالأسود وفي أحيان أخرى طوبابا أسود ملوّنا بالأبيض. لكنّه بصورة عامة عرف ـ مثله مثل المرحوم الحبيب بورقيبة الذي ساهم هو الآخر بشكل نشيط في بعث تيّار الفرنكوفونية-ـ كيف ينزع فتيل هذا الصراع الزائف بين اللغة الأم واللغات الأجنبية ويُوظّف إشعاعه ومكانته وحظوته في الدوائر العالمية لخدمة قضيّة بلاده واستقلالها وتطوّرها… إلى جانب دفاعه التاريخي غير المسبوق (هو والكاتب المارتينيكي إيمي سيزار) عن قضية إخوتنا ذوي البشرة السوداء.

أعود مُرغما مرة أخرى إلى مسألة الفرنكوفونية المنعقدة قمّتها هذه الأيام تحت سمائنا نظرا لتفاقم ظاهرة ازدراء هذا المشترك اللغوي والثقافي الذي يجمع عديد شعوب العالم والتي بلغت حدّ السّباب والشتيمة والتخوين واعتبار كل من يبحث عن بعض مواطن “التوظيف الإيجابي” للفرنكوفونية في اقتصادنا وتنميتنا وتعليمنا وثقافتنا… هو بالضرورة من أنصار التبعيّة والاستعمار والانبتات الثقافي والحضاري.

تنتابني رغبة جامحة إزاء كل هذا في تدوين بعض الملاحظات الهادئة التي أضعها على طاولة النقاش السّاخن :

أولا : العربية الأمّ مُرضعة وحاضنة وملجأ ومنبع عطاء لا ينتهي

من لا لغة أمّ له، لا يمكن أن ينفتح على لغات أخرى لأنه لا يكفي أن تُقبِلَ على لغة ما وتلجأ إليها وتطلب ودّها حتى تحتضِنَكَ، لا بدّ مقابل ذلك أن تستشعر رغبة صادقة لديك واستعدادا عفويا لتقبّل لون بشرتها والشذى المنبعث منها وتقلّب مزاجها وقساوتها أحيانا …حتى تُقبِل عليك هي أيضا، كما الجياد الأصيلة لا تلينُ لراكبها إلا إذا كان يُتقن فن الطيران دون أجنحة ويقدر على التعامل معها بما يلزم من الليونة والاحترام والتّوقير.

قد لا نكون ـ نحن أو أبناؤنا ـ  من المُجيدين الكبار للغة العربية الفُصحى لأسباب موضوعية تاريخية، منها ما يتصل بسطوة العاميّة في خطابنا اليومي ومنها ما يتعلق بمناهج التدريس وبرامجه وسياسات الدولة في المجال الخ… ولكن لا أعتقد شخصيا أن حضور الفرنسية أو اللغات الأجنبية الأخرى هو السبب في جعلنا نواجه كل هذه الصعوبات في تعاطي العربية نطقا وكتابة وتوظيفا بحثيا ودراسيا في شتى المجالات. يبدو لك أحيانا أمام طريقة تدريس العربية لأبنائنا وتفاعل هؤلاء مع ما يُقدّم لهم من دروس ومضامين أنك إزاء تعلّم لغة أجنبية صارمة… نظرا للضيق المتزايد والمتعاظم في إيجاد السياقات اليومية التي نستعمل فيها قواعد اللغة العربية وأحكامها. فلا أعرف مجالا واقعيا يوميا واحدا نضطر فيه لاستعمال العدد والمعدود و”المسائل النحوية في كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح” والحروف العاملة والحروف المهملة… بحيث يُفرض علينا اليوم تبسيط اللغة العربية في مناهجنا وربطها بسياقات العصر ومقتضياته والعمل على إضفاء كل الأبعاد اللعبيّة عليها وجعلها مفضّلة لدى الأطفال وتنظيم التظاهرات الكبرى (كما حدث مؤخرا في البطولة الوطنية للمطالعة بالقاعة المغطاة برادس) التي تُحفّز على القراءة وإعادة بناء الجسور مع لغة أمّ أصبحت مهدّدة في كيانها. فالعربية ليست أقلّ شأنا ولا أقل جدارة بالبقاء والتطور من اللغات الصينيّة أو اليابانية أو الهندية التي يتكلّمها أهلها بشكل طبيعي وخلاّق دون ترذيل أو ذوبان في اللغات الاجنبية وأيضا دون ازدراء أو تحقير للّغات الأخرى.

ثانيا : اللغة الأجنبية كنّة وليست ضرّة

نكتة قبل البدء : “الفرنسيون يُفاخرون بأنهم يتعاطون اللغة الفرنسية بشكل جيّد…لأنهم لا يتكلمون أية لغة أجنبية !

لديّ تقدير بأن اللغات الأجنبية بنات جميلات تزوّجهنّ أبناؤنا (أو شبّانا على درجة من الوسامة تزوّجتهم بناتنا) فأنجبن أو أنجبوا وِلدانًا باهرين هم اليوم بمثابة انفتاح شبابنا على ثقافات العالم وقدرتهم الفائقة على اقتحام سوق العمل العالمية لا فقط بفضل مهاراتهم العلمية والتكنولوجية بل وأيضا بفضل إتقانهم للّغات الأجنبية وتكلّمها بطلاقة.

صادف مرّة أن تمّ تقديم مهندسة تونسية في إحدى الشركات السويديّة على أنها كفأة في مجالها وتحذق اللغتين الفرنسية والانكليزية… فأجاب مسؤول الانتدابات السويدي بذلك المجمع المهني بأن صاحب التقديم اقترف حشوا مضاعفا (بمعنى تكرّر معنى لا موجب له pléonasme ) لأن كلمة مهندس تونسي لوحدها تؤدّي المعنى كاملا دون إضافات زائدة !

فاللغات الأجنبية إذن هي فرصة وامتياز… وليست عائقا واغترابا. ولم يتأتّ هذا الرصيد الثمين من القدرة على تعاطي لغات العالم بأسره صدفة بل هو نتيجة مسار تعليمي طويل آمن بخطر الانغلاق وعمل على ترسيخ قيمة حضارية لم تُتَح لغيرنا من الشعوب تمثّلت في إنفاذ شعار عزيز على مدرستنا التونسية عبر كل الحقبات وهو “العمل على تأصيل الناشئة في لغتها الوطنية مع الانفتاح على لغات العالم“. قليلة جدا هي الشعوب التي تنطق لغات أخرى إلى جانب لغاتها الوطنية كما يفعل الشباب التونسي إزاء الفرنسية أو الانكليزية أو الألمانية… جرّبوا التحدث إلى ألماني في غير الألمانية أو تركيّ في غير التركية أو أمريكي في غير الانكليزية (الأمريكية) !  وبالعودة إلى صورة الأم التي تُزوّج ابنها فيصبح لديها كنّة، فأعتقد أن درجة تعلّقها بهذه الوافدة الجديدة تكون بنفس قدر السعادة التي ستترعرع بين الزوجين.

ثالثا : يٌندّدون بالفرنكوفونية ويسجّلون أبناءهم في أرقى المدارس الأجنبية

يُحزنني كثيرا أن أرى نفس الذين ينادون بمقاطعة الفرنسية بل وإدانتها باعتبارها لغة المستعمر الغاصب (أنظروا دعوة الاتحاد الإسلامي الدولي للمحامين – فرع تونس مؤخرا إلى وقفة احتجاجية للتنديد بانعقاد القمة الفرنكوفونية في جربة باعتباره “تبعية واستعمارا”) هم أنفسهم من يُسارعون إلى تسجيل أبنائهم وبناتهم بالمدارس الخاصة (حيث يتمّ التركيز على اللغات الأجنبية منذ المستويات الدراسية الأولى) والمؤسسات التربوية الأجنبية بتونس وبالجامعات الفرنسية والبريطانية بعد الباكالوريا… لأنهم يدركون جيدا (في غفلة من شعاراتهم السياسية والإيديولوجية) أن اللغات الأجنبية هي مفاتيح لمعالجة أبواب المستقبل ونوافذ مُطلّة على نفائس الثقافة والأدب والسينما والشعر في القارّات الخمس، وأدوات فاعلة تُلوّن شهائدنا الوطنية وتُقدر أبناءنا لكي يكونوا من مواطني العالم.

وأختم في علاقة بآخر جملة في هذه الورقة بمقولة للكاتب اللبناني أمين معلوف في روايته الرائعة “التائهون” (باللغة الفرنسية) : أنا وُلدتُ في كوكب الأرض ولم أولد في بلد بعينه” … وحتى لا تُخرج هذه الجملة من سياقها الأصلي الذي كُتبت فيه، سأُترجم المقولة بأكملها :

“…أنا وُلدتُ في كوكب الأرض ولم أولد في بلد بعينه. لكن بكل تأكيد، أنا وُلدتُ أيضا في بلد، في مدينة، في طائفة، في عائلة، في قسم ولادة، في سرير… لكن الشيء الوحيد الذي يكتسي أهمية بالنسبة لي كما بالنسبة إلى كل الناس هو أن نكون أتينا إلى العالم.  إلى العالم ! الولادة، هي أن تأتي إلى العالم لا أن تأتي إلى هذا البلد أو ذاك، في هذا البيت أو ذاك”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version