شدّ انتباهي طلب للعروض تقدّمت به إحدى جامعاتنا التونسية العمومية المرموقة في الآونة الأخيرة (جوان 2022) وتبحث من خلاله عن اقتناء “منظومة إعلامية لمقاومة الغشّ لفائدة مؤسسات التعليم العالي الراجعة إليها بالنظر : استشارة عدد 105/2022″، وهي أول مرّة حسب رأيي تخرج فيها ظاهرة الغشّ والسرقة العلمية في الوسط الجامعي من دائرة الأحاديث الخاصة المُتداولة بين الجامعيين وسائر المهتمّين بالشؤون الطالبية في حلقات مُغلقة، إلى مربّع التداول العمومي وانتشار الظاهرة على نطاق واسع ممّا دفع بالمؤسسات المشرفة على حظوظ تعليمنا العالي إلى البحث عن حلول آلية لمقاومتها والحدّ منها وردع المخالفين.
وكان من الطبيعي أن تظلّ ظاهرة الغش والمخاتلة من المواضيع “المحظور تناولها” لأنها مُسيئة إلى صورة جامعاتنا ومستوى الشهائد الجامعية التي تُسندها، إلى جانب كونها ظاهرة كونيّة تعاني منها أغلب المؤسسات التعليمية والتكوينية في العالم (تذكر بعضالتقارير الجدية في هذا الخصوص أن نسبة تتراوح بين الثلث والرّبع في الولايات المتحدة الأمريكية من الطلبة ينقُلون مقاطع تكبر أو تصغر حسب الحالات من الإنترنت دون ذكر المصدر، وتصل هذه النسبة في فرنسا إلى 34.5 % من المتعلّمين الذين ينقلون نصوصا مُقتطعة بصفة كلية أو جزئية من مصادر متنوعة ويقدمونها على أنها أعمال شخصية).
هنالك حسب رأيي ثلاثة عوامل أســاسيّة تدفع الطلبة إلى خرق أخلاقيـــات البحث والإبداع في الوسط الجـــــامعي :
أولا : الغشّ ظاهرة مُجتمعية مستفحلة
تزخر لغتنا العربية الطاهرة والورِعة بكمّ هائل من المصطلحات التي تدور على معنى الغشّ والاحتيال مثل الدهاء والمكر والنفاق والخداع والدّجل والكذب والمخاتلة والتلاعب والسرقة والنّصب والمراوغة و”التمسكية” و”التفسكية” و”الترسكية” الخ… بما يؤكّد أننا نعيش في مجتمع تتأصّل فيه قيم المُواربة و”إخدم جوّك” أكثر بكثير من قيم الصدق والثقة والأمانة التي تدّعيها ثقافتنا. فكيف نطلب من شاب أو شابّة تتعامل يوميا مع بائع يُقسم بأغلظ الأيمان ويبيع الزيت خلسة، وهاتف جوّال لا يرطن إلا بالآيات البيّنات ويسكن خلفه إنسان كذوب ومتذاك، ومع جزار يبيع لحم الحمير على أنه لحم عجول، ومع جار يعمل في شركة الكهرباء ويتمتّع بمجانية التنوير لكنّه يوزّع الأسلاك المجانية على كل أبناء عمومته، ومُزارعين يشفطون الماء الصالح للشراب لصالح حقولهم ويحكُمون على باقي المتساكنين الواقعة بيوتهم بعد ذلك المستوى بالعطش وتجفيف حلوقهم… كيف نطلب منهم أن يتحلّوا بالاستقامة والأمانة.
وعلى هذا النحو، أينما ولّيت وجهك، عليك أن تكون شديد الحذر والانتباه حتى لا تقع في شِباك المتصيّدين وكل الذين جعلوا من “الفهلوة” وسيلة للارتزاق في تثبيت مُريع للغشّ الذي أصبح ملتصقا بجميع تصرفاتنا وعلاقاتنا ومعاملاتنا.
ثانيا : مكتبة بحجم الكوْن في متناول الجميع
من المؤكد أن الطرقات السيّارة للمعارف والمعلومات ومحركات البحث العملاقة والمصادر الإلكترونية والمجلات الرقمية على الويب ساهمت بشكل كبير في تيسير الحصول على كل المعلومات التي يستحقها الباحثون الشبّان في مشاريعهم البحثيّة، ومن المؤكد أيضا أن مستوى جودة واكتمال ما يُنشر في المواقع الجادّة على الشبكة العنكبوتية يُغري المُطالعين ويجعلهم يشعرون أنهم مهما فعلوا واجتهدوا لن يتيسّر لهم تأليف نصّ في نفس مستوى التماسك والبناء المنهجي وطرافة الأفكار… فينقلونه بحشيشه وريشه حتى يبدو على درجة كبيرة من الانزياح المُخيف بالنسبة إلى ما يحاولون هم كتابته أو إضافته.
ثالثا : الكتابة دُربة وتكوين ووجدان
هنالك ضعف هيكلي عام لدى أبنائنا وبناتنا في اللغات جميعها (عدا قلّة قليلة من المتفوّقين في كل الشعب الدراسية) لأن مدرستنا لم تُكابد في ترسيخ المطالعة كقيمة مركزية في التعلّم، حتى باتت المكتبات المدرسية أشبه ما تكون بمخازن لترصيف كتب بالية منقطعة تماما عما يُكتب ويُنشر حديثا في الرواية والقصة والخيال العلمي والنقد وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وشتى أنواع العلوم، ولأن عائلتنا تُفضّل عادة شراء مكتبات لعرض تشكيلات الصّحون على إبراز دُرر الكتب والمُتون. (79 % من التونسيين لا يمتلكون كتابا واحدا داخل بيوتهم مقابل معدّل 70 كتابا يقرؤه الفرنسيون سنويّا على سبيل المثال). فالقدرة على الكتابة والتأليف والتحليل تتأتّى من هذا المخزون الذي يتراكم عبر القراءات والمطالعات الشيّقة والمُضنية في آن.
طلبة اليوم هم جامعيّو الغد
فوجئتُ شخصيا وعند إصلاح بعض الأعمال البحثية لطلبة الماجستير بإحدى المؤسسات الجامعية، أن عديد الطلبة يُخيّرون التحرير باللغة العربية رغم ضعف مستواهم في هذه اللغة ورغم طبيعة الاختصاص المكتوب فيه أساسا باللغات الأجنبية، والسّبب في ذلك يعود (حسب رواية الطلبة المعنيين أنفسهم) إلى إستراتيجية الإفلات من رقابة التطبيقات الإعلامية المتخصصة في رصد الغشّ والنّقل الموصوف لنصوص أو فقرات لا تتضمّن إحالة على مراجعها الأصلية عندما لا يكون النص الخاضع للتقييم باللغة الفرنسية .
والموجِع في انتشار هذه الظاهرة خاصة في صفوف من يتهيّؤون لاستكمال شهادة الماجستير وشهادة الدكتوراه بعد سنوات قليلة، هو أن هؤلاء هم من سيتولّون مهمة التدريس في الجامعات وتأطير الطلبة وإقدارهم على ممارسة البحث العلمي بضوابطه المنهجية الصارمة وموانعه الأخلاقية العارمة. ويحضرني في علاقة بهذا، الكتاب الجريء لفقيد الجامعة التونسية الأستاذ محمّد الطاهر المنصوري “صمت المدرّجات” والذي يحاول فيه كسْر الصمت المريب الذي يُخيّم على عديد الممارسات غير السويّة في جامعاتنا ومنها ظاهرة “النّشل الأكاديمي” والسرقات البحثية المفضوحة في صفوف زملائه الذين يُقضّون عمرا جامعيا كاملا بالنسبة إلى عدد كبير جدا منهم دون إنتاج مقال علمي واحد رغم تأسّس أجورهم في جزء منها على مُكافأة مجهود البحث والتأطير.
لكن أحد أوجه الحقيقة أيضا أن الذين يختارون مواصلة دراستهم الجامعية بعد المستوى الأول أي مستوى الإجازة هو أنهم يُقبلون على ذلك لا لرغبة حقيقية في تعميق معارفهم أو هوْس بيّن باكتساب قدرات بحثية صلبة، بقدر ما يُدفعون إلى ذلك دفعا نتيجة انسِداد آفاق التشغيل أمامهم وبالتالي الرغبة في إطالة أمد البقاء على قيد “مزاولة التعليم” وتأجيل الاصطدام بجدار البطالة، أكثر ما يمكن… وعليه فهم موجودون في حقل البحث بشكل عرضي لا يمتّ بصلة لمعنى المشروع والمسار الواعي والنتائجي.
المسألة في تقديري مسألة بناء قاعدي نتولاّه مجتمعيا وسياسيا ويمتد على أجيال بكاملها، بناء إنسان جديد يتربّى منذ طفولته على القطع مع الهاتف الجوّال (كهدية ملغومة يُكافأ بها أطفالنا) والإقبال المحموم على الكتب والتدرّب على التحرير كتابيا والتكلّم شفاهيا والمحاجّة ذهنيا.