الفرنكوفونية … كأنّها موضوع ممنوع من التداول العام !
نشرت
قبل سنتين
في
الفرنكوفونية هي حوالي 300 مليون من المتحدثين باللغة الفرنسية عبر القارات الخمس. وهي “آلية هدفها تطوير ونشر النّطق باللغة الفرنسية وإرساء تعاون سياسي وتربوي واقتصادي وثقافي في 88 دولة وحكومة تتألّف منها المنظمة العالمية للفرنكوفونية …” حسب ميثاق الفرنكوفونية الذي تمت المصادقة عليه في 1997 بهانوي الفيتناميّة.
من حق الفرنسيين أن يُفاخروا بلغتهم الفرنسية ويمجّدوا حُسنَها وبهاءَها كما يُجسّد ذلك ألبير كامو في مقولته الشهيرة “لديّ وطن : هو اللغة الفرنسية” ! لكن مستعمليها الأجانب خاصة أولئك الذين أُكرهوا بقوّة السلاح على التعاطي معها وبها وفيها … يجدون أنفسهم – بعد تحرّرهم (ولو نسبيّا) من أغلال الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي- في حقهم التاريخي والشرعي أن يتعاملوا مع هذه اللغة الأجنبية بشكل مختلف عن أبنائها الأصليين. وأما شريحة الناس في مختلف بلدان العالم التي اختارت إراديا تعلم اللغة الفرنسية كلغة إنسانية مُشعّة عبر العالم كُتبت فيها دُرر فلسفية وأدبية وشعرية وحقوقية…فالأمر مختلف بشكل جوهري لديها فيختارها الناس كلغة أجنبية ثانية أو ثالثة أو رابعة مثلها مثل العربية أو الإنكليزية أو الصينية أو الاسبانية.
ذاك شأن مُتعارف عليه ولا جدال فيه تقريبا بين الناس، ولكن السؤال الذي يُحيّرني شخصيا ولا أجد له إجابات حاسمة ونهائية ومقنعة هو: إلى أي مدى يمكن تطويع “غنيمة الحرب” هذه (ويقصد الكتابة المقاومة باللغة الفرنسية، كما يقول الكاتب الجزائري كاتب ياسين) في خدمة تعليمنا وثقافتنا ومنتوجنا السينمائي والأدبي… وتوظيف هذا الاكراه التاريخي في خدمة تنميتنا الاقتصادية وتموقعنا في العالم وضمان المناصرة الدولية لقضايانا الكبرى ؟ وهل يجب بالعكس التخلّص الاستئصالي من هذا الإرث الثقيل الذي فرض نفسه في ثقافتنا ولغة التخاطب فيما بيننا وتسلّل إلى مناويلنا التعليمية وتشكيل وعينا المجتمعي في جزء كبير منه ؟
وبمعنى ما، لو أقمنا ميزانا لتقدير ما غنمناه وما يمكن أن نغنمه مقارنة مع ما أعاقنا ويُعيقنا في مجالات معينة، فكيف يكون الناتج النهائي ؟
لست أدري لماذا لم نتعوّد في تونس (أو لم يُردْ لنا أن نتعوّد) على طرح هذا الموضوع وتدارس تداعياته إلا نادرا وحصريا في ارتباط بلغة تدريس المواد العلمية في مدارسنا وخاصة في علاقة بعجزنا جميعا (دولة وشعبا، وأقصد بالشعب هنا النّخب التربوية التي تُرك لها مجال الحسم في فترات محدّدة من تاريخ التربية والتعليم في بلادنا) على حلّ معضلة تدريس العلوم بالعربية إلى غاية التاسعة أساسي… ثم مباشرة بداية من أولىى سنوات الثانوي نعود إلى تدريسها باللغة الفرنسية في شطحة سكيزوفرينية فارقة. فنادرا ما استمعت إلى مجموعات أو نخب أو أحزاب أو تلفزات أو إذاعات تناقش بهدوء طبيعة الموقف المفروض اتخاذه بشكل موضوعي، إزاء كل هذه المسائل التي نعيشها منذ عقود والتي تنعكس في كل مناحي حياتنا تقريبا.
الفرنكوفونية هي غير الفرونكوفيلية أو الفرنكوفوبية
إزاء واقع التنافس المحتدم بين لغات القوى العظمى في العالم، وتجاه تأكّد ظاهرة فرض الانكليزية كــ “لغة كونية” تتكلمها جميع شعوب العالم وخاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا الحديثة… وأمام انعكاسات ذلك من ناحية أخرى على مدى إتقاننا للغتنا الأم والسعي إلى تطويرها وتليينها وجعل اللغة العربية كما كان يقول أناتول فرانس في شأن اللغة الفرنسية “امرأة لا تجرؤ على خيانتها لأنها على درجة نادرة من الجمال والعزّة والتواضع والبأس والجاذبية والشهوانية والطهورية والنبل والقرب والجنون والحكمة بما يجعلك تُحبُّها من كل أعمالق روحك…”، إزاء كل هذا، برز اتجاهان كبيران أعتقد شخصيا أنهما على قدر معيّن من التطرف :
اتجاه الفرونكوفيلية francophilie la ويمثله المفتتنون بفرنسا وباللغة الفرنسية. هؤلاء بصورة عامة لا يتركون أية مسافة نقدية بينهم وبين لغة ليست لغتهم (مهما بلغ امتقاع شفاهم واعوجاج ألسنتهم) وبينهم وبين حضارة ليست حضارتهم ولسان ليس لسانهم ومهجة ليست مهجتهم. يدافعون عن الفرنسية أكثر من دفاعهم عن العربية (والدفاع عن العربية كلغة أمّ هو أمر طبيعي لأنها عنوان هوية وانتماء كما الدفاع عن التامول بالنسبة إلى السنغافوريين أو السواحيلية بالنسبة إلى الروانديين أو الكينيّين).
اتجاه الفرنكوفوبية la francophobie أي الخوف أو الرُّهاب إزاء الفرنسية وكل ما هو فرنسي ويمثل هذا الاتجاه بصفة عامة غُلاة المدافعين عن “العروبة والاسلام” الذين يريدون تعليق جميع مصائبنا على شمّاعة “معاداة الخارج لنا وتنفيذ الصهيونية العالمية والماسونية لمخططاتها ومؤامراتها ضد العرب والمسلمين”… حتى لأصبحت شتيمة معهودة لدى هؤلاء عندما يصفون خصومهم السياسيين والثقافيين بــ “أيتام الفرنكوفونية” !
أما الفرنكوفونية، كظاهرة كونية تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، فلا أحد يتحدّث عنها بموضوعية واتّزان بحيث يتمّ بموجبهما استبعاد 3 مخاطر أساسية حسب رأيي :
خطر المدافعين عن “قابلية الاستعمار للمساعدة على تطوير المجتمعات حضاريّا” (هل تذكرون عندما شكّك ماكرون في وجود أمة جزائرية أصلا قبل الاستعمار الفرنسي ؟ ).
خطر المفتونين باللغة الفرنسية من التونسيين إلى درجة تجعلهم يخجلون من ارتكاب أخطاء لغوية في الفرنسية ويتندّرون بأخطائهم في العربية معتبرين ذلك مجال ظُرف وتفكّه… في مناخ من الغُربة والاستلاب.
وثالثا خطر من يتوهّمون أن التهديد يأتي دوما من خارج الديار وليس من داخلها، فعربيّتنا (التي يتكلمها 274 مليون نسمة في العالم وهو تقريبا نفس عدد الناطقين بالفرنسية) لم تستطع إلى حدّ الآن اقتحام مجالات العلوم والتكنولوجيا مقارنة بباقي لغات الكون وخاصة الانكليزية. فعندما نُبحر عبر كل محركات البحث طمعا في العثور على مقالات أو منشورات أو بحوث علمية مُحكّمة باللغة العربية، لا نجد لها أثرا (باستثناء النزر القليل في العلوم الإنسانية والاجتماعية) وهو مؤشر على أن لغتنا ليست لغة مستخدمة اليوم في مجالات العلوم والتكنولوجيا الكبرى… أي في كل ما هو بصدد تشكيل ملامح عالم الغد ومستقبل البشرية جمعاء.
أقول في النهاية إن المشكل ليس في اللغة الفرنسية في حدّ ذاتها بل في الاستخدامات والتوظيفات المختلفة والمتنوعة التي نختارها لأنفسنا بحرية وتبصّر واقتناع، وأن معاقرة اللغة الفرنسية لا بدّ أن تؤخذ على كونها فرصة تسمح لأبنائنا بولوج مكتبات ضخمة ومؤلفات دسمة…مع السعي بصفة موازية إلى حذق اللغة الانكليزية وتوظيفها هي الأخرى في إشباع حاجتنا الكبرى إلى البقاء في مسار السّير جنبا إلى جنب مع الشعوب الأخرى ورفض البقاء على هامش حركة التاريخ… إضافة بطبيعة الحال إلى الاعتناء بلغتنا العربية والمساهمة في إنقاذها من واقع الهامشيّة الذي تردّت فيه.
للكاتب والشاعر والرئيس السينيغالي وعضو الأكاديمية الفرنسية ليوبولد سيدار سنغور كلام مهمّ في هذا الخصوص، يقول :
الفرنكوفونية تنظيم وشعوب، ولكنها ثقافة قبل كل شيء. وهي موعد للأخذ والعطاء… وأداة للتبادل بين مختلف الحضارات وتحقيق خصوبتها. أنا أفرق بين ضرورة أن تستوعب دون إكراهك على أن يتمّ استيعابك. « Assimiler, ne pas être assimilé »