القائد الناجع ليس من يثق بنفسه فحسب… بل يثق بمن حوله كذلك
حكاية من الواقع، قابلة للتعميم
نشرت
قبل سنة واحدة
في
لديّ صديق عزيز يعمل منذ أمد بعيد مع مستثمرين إيطاليين يشتغلون في مجال صنع أسلاك السيارات وتركيبها لفائدة كبرى الشركات العالمية والتي اكتسبت فيها بلادنا سمعة دولية واسعة جديرة بالتنويه والعناية، خاصة أنه مجال يوفّر طاقة تشغيلية كبيرة وجزء هام من تكوين العاملين فيه يتمّ ميدانيا داخل وحدات الانتاج… حتى أن بلادنا أصبحت من العشرة مزودين الأساسيين الأوائل للاتحاد الأوروبي من الأسلاك الكهربائية والمكوّنات الإلكترونية التي يطلبها قطاع تصنيع السيارات والعربات بأصنافها عبر القارات الخمس.
صديقنا هذا اكتسب تجربة فنية عالية لا في المجال التقني الصّرف فحسب وإنما أيضا على المستوى العلائقي وما يسمى بالتصرف في الموارد البشرية، حتى انه هو من يُكلَّف بالتفاوض مع الحرفاء الألمان أو الأوروبيين بصفة عامة كلما جدّت بعض الاضطرابات في التزويد أو كلما دُعي إلى الإجابة عن السؤال الراسمالي الاستفزازي الحديث “برّروا لنا من خلال قرائن ملموسة لِم يتعيّن علينا نحن كحرفاء مواصلة التعامل معكم أنتم بالذات والحال أن العالم يعجّ بالشركات التي تُشبهكم” (نعم هذا نوع من الأسئلة التي تُلقى على المُصنّعين في ظل المنافسة المعولمة).
ذات يوم، زار المعمل الذي يشرف صديقنا على تسيير عمليات الانتاج فيه، أحد كبار الحرفاء الألمان للاطلاع على مسارات التصنيع وأساليب التغليف والتركيب وقواعد السلامة والجودة المتّبعة ومدى استجابة تركيبة السلع المصنّعة للمعايير البيئية المعمول بها عالميا تجنبا للخطايا والعقوبات التي قد تنجر عن الإخلال بها، الخ… وكان الزائر الألماني الرقيب مرفوقا بصاحب المعمل الإيطالي وصديقنا التونسي في جولته بين صفوف النساء العاملات ومختلف فضاءات وزوايا هذه الوحدة الصناعية.
كانت أنظار الزائر المتفقد مشدودة إلى نسق العمل ووشوشات الفتيات وهمساتهنّ المتسائلة عن سرّ قدوم هذا الغريب المتأهّب لرصد أي نتوء يحصل هنا أو هناك، ولكنه كان مشدودا أكثر إلى المسؤولين عن الجودة والإنتاج والمراقبة والتغليف واللوجيستيك…الذين كانوا يعترضون صديقنا التونسي بشكل مسترسل ليعرضوا عليه صعوبة مَا أو خللا طارئا أو إشكالا معيّنا وكيف يجب التعامل معه… ليستمر نسق الانتاج بشكل طبيعي والتقدم في تحقيق العتبات المستوجبة من تعبئة الحاويات الضخمة بالنسبة إلى استحقاقات إيصال الطلبيات إلى الميناء في إبّانها.
احتفظ الألماني بكل تفاصيل ذلك المشهد وانتهز فرصة التئام الجلسة التقييميّة بعد الغداء بين الألمان (الشركة الحريفة) والطليان (الشركة المُزوّدة)، للثناء على مهارة اليد العاملة التونسية ونقاوة المناخ العلائقي داخل المعمل ثم بادر بطرح السؤال التالي على المدير الإيطالي :
“كيف تفسّر أن ذلك المسؤول التونسي الذي رافقنا خلال كامل زيارتنا الصباحية كان يلتجئ له الجميع من عملة وأعوان ومسؤولين فنيين من أجل استشارته في كل كبيرة وصغيرة، وكأن كل المشاكل في معملكم تُحلّ عن طريقه هو بالذّات؟”
أجاب المدير الإيطالي بنبرة تشي بفخر كاذب “نعم هذا صحيح تماما، إنه العمود الفقري هنا، لا يمكن الاستغناء عنه، وهو على درجة عالية من التجربة والكفاءة، وميزته أيضا أنه يعرف جيدا كيف يتعامل مع العاملات ومختلف القائمين على وحدات المصنع المتعددة. ويعود ذلك إلى كونه ظل يرافقنا منذ أولى بداياتنا في تونس… وقد لاحظتم ربما أنه يُتقن جيدا اللغة الإيطالية”.
ردّ عليه الألماني مبتسما ولكن بشكل حاسم غير منتظر : “ومن أجل ذلك تحديدا سأقترح على مجلس الإدارة حال عودتي إلى برلين مذكرة أعرض فيها إيقاف التعامل معكم مستقبلا بالرغم من أنه ليست لديّ مبدئيا أية مؤاخذات على جودة منتوجكم وكفاءة اليد العاملة هنا واحترام تعهّداتكم تجاه الحرفاء… والسبب بسيط : وحدات إنتاج بأكملها لا حق لها في يوم تأخير واحد قائمة على حضور شخص واحد مهما كانت مهارته وقدراته التواصلية، لا يمكن أن تكون بمنأى عن الانهيار وتراجع الأداء طال الزمن أم قصر !!!”
أصغيتُ إلى صديقي هذا بكل انتباه لأنه كان يروي بشغف مجريات أحداث عاشها بنفسه وكان مقتنعا بأن المقاربة الألمانية – بالرغم من الحدّية المبالغ فيها التي تؤثثها- فيها جانب كبير من الصحة باعتبار أن مجهود الأفراد مهما كان متميزا ليس مهما وحاسما إلا بقدر تضافره مع مردود كامل أعضاء المجموعة في عزف سمفوني جماعي لكل فيه دور وإضافة مؤكدة.
أحالتني شخصيا هذه الحكاية على ما يحدث صلب مؤسسات دولتنا التي يتموقع فيها الأفراد مثل آلهة لم تنجب البلاد أناسا في مستوى كفاءتهم ونبوغهم وربوبيتهم لا قبلهم ولا بعدهم. يبدعون في “صنع الفراغ من حولهم” لأنهم مقتنعون في أذهانهم المغلقة بأن الله “حباهم بخصال حجبها عن سواهم” وأن الآخرين من حولهم لا يُؤتمن جانبهم وقد يتخاذلون أو يخذلون أو يتكاسلون.
فحتى ربّ العائلة في ربوعنا لديه شيء من هذه العقلية المُحقّرة لحضور الآخرين كثيرا ما يردّد : “كان آنا ما نعملش هاكة الحاجة ما يعملها حتى حدّ في الدار هاذي” !
هم بصفة عامة إما مصابون بجنون العظمة لديهم حذر مرَضيّ من كل المحيطين بهم، أو نرجسيّون يكونون في حالة بحث دائم عن إعجاب الآخرين ولا يتأزّمون كثيرا (عكس ما قد يدّعون) أمام معاناة الناس وما يعبّرون عنه من أحاسيس. ولكونهم متمركزين بشكل حادّ حول ذواتهم المزهوّة بنفسها، أو هم كذلك غارقون في “ألوهيتهم” لا يكون الخطأ في صفّهم أبدا، وإن حدثت أزمات فهي إما ابتلاء سماوي أو مؤامرات خبيثة حيكت تحت جنح الظلام لن يطول الزمن قبل الإطاحة بمرتكبيها.
القبول بالعمل الجماعي وضمن فريق، ثقافةٌ لم نتربّ عليها نحن العرب للأسف لأننا أبناء ثقافة الزعيم الملهم والقائد المخلص ومن “راسي تڨرع” و “هازز الخدمة الكل على اكتافي” … ولأن أول إنجاز يقوم به المسؤول لدينا هو الفسخ الممنهج لكل ما تم بناؤه قبل مجيئه، والتباهي بأنه سيغير أساليب العمل وسيُحدث تطويرات مجدّدة. فينسفون الماضي ولا يكسبون المستقبل،
ولنا مثال حيّ في التجديدات الطارئة هذه السنة على منظومة التوجيه الجامعي التي خلّفت آلاف الضحايا والتي سنعود إليها في ورقة لاحقة.