مشكلة ساستنا على مر العصور أن القرارات التي يتخذونها تكون عادة من وحي لحظتين: لحظة إنقاذ الأربعة سيقان التي يقعدون عليها (أي “فوتاي” الحكم) ولحظة أمر وزجر قادمين من وراء الحدود …
فعلا، فما عشناه طيلة ستين عاما ونيف كان مجرد ظلال تابعة لهاتين اللحظتين … تعاضد الستينات كان بأمر دولي، ليبرالية السبعينات (الاقتصادية لا السياسية) كانت أيضا نتيجة أول اتفاقية “آليكا” (1969) مع إملاءات صندوق النقد الدولي … التخلي عن الدعم قبيل أحداث الخبز في الثمانينات كان تلبية لطلب من نفس صندوق النقد … حتى شبه الانفتاح الذي أتيح في تلك الفترة وما رافقه من إيهام بالتعددية كان أيضا وصفة قادمة من الخارج لتمرير طرف سياسي معين بدأ يُفرض شيئا فشيئا إلى هذه الساعة … كل هذا مع شلاّل “الإصلاحات” التي ـ يا للغرابة ـ لم تستهدف في لبّها سوى المكاسب الاجتماعية القليلة التي راكمتها الدولة التونسية، في فترات بحثها عن استقرار يمسّ كراسي ماسكيها أكثر من أي شيء آخر.
لذلك كان القرار الرسمي عندنا انتهازيا، متضاربا وقصير النظر … فتونس تسعينات القرن الماضي لم تكن من شواغل تونس السبعينات، وتونس القرن العشرين لم تكن مهتمة بمصيرها في القرن 21، ولا حديث اليوم عن تونس 2040 و 2050 فأحيِني اليوم واقتلني غدا، ودار الخلاء تبيع اللفت …
نأخذ مثالا بسيطا من لحمتنا الحية … الإدارة التونسية … لا توجد بلاد في الدنيا تحدثت عن الإصلاح الإداري عدد ما تحدثنا عنه في تونس … منذ فتحنا هاتين العينين ونحن نسمع ونرى كافة المسؤولين والبرامج وقوانين المالية وتركيبات الحكومات وتسمية الوزارات والوزارات المعتمدة والوزارات المستشارة وكتابات الدولة وطائفة أخرى من المناصب والعناوين والسياسات والميزانيات … كلها كلها ترفع يافطة الإصلاح الإداري ونطوير الإجراءات ومواكبة العصر إلخ … وفي الأخير تجد أن عراقيل سنة 1950 ماتزال حاضرة في 2023، وذهنية العداء لكل ما هو وطن ومواطن مستحكمة في المكاتب واللجان والنصوص والرؤوس …
إدارتنا ـ وريثة القهر الاستعماري ـ بقيت ترى في أناس هذا البلد جمع حيوانات متوحشة تساس بالسوط والسلاسل والفخاخ وبنادق الصيد … حقوقها عليك أكثر من حقك عليها، وواجبها إن قامت ببعض منه فهو منّة تشكرها عليها ولا تطمعْ في الاستزادة منها أو حتى تكرارها … لها السلطة المطلقة في توزيع رضاها وتراخيصها ورسم توجهاتها وليس مطلوبا منك أن تسأل أو تفهم … حتى التكنولوجيا التي ابتكرها الحضر لتسهيل عيش الناس أصبحت سيف الحجّاج عندما وصلت علينا … فالإعلامية زادت من أعبائنا إجراءات إضافية، ويقع استغلالها لرصد مخالفاتك بدل تدوين حقك، ويتم توظيفها للتعلل بأن القرار الذي لم يعجبك إنما هو صادر عن الكمبيوتر وعليك بقبوله صاغرا … طبعا من دون أن نحكي عن الأعطال الكثيرة التي تصيب الشبكة والتي يمكن أن تبقيك تنتظر ساعات وأياما ولم لا أشهرا وأعواما …
يطول الحديث والريق شائح والقلب موجوع … ولكن ما يغضب مواطنينا بالخارج عند المقارنة بين سلاسة إدارتهم هناك وشؤم إدارتنا هنا، بإمكانك أن تجيب عليه بطريقتين: الأولى أن الإدارة في أوروبا متأسسة على خدمة المواطنين وتفعل كل شيء لاحترام هذا المبدأ، في حين أن إدارتنا مبنيّة على كسر رقاب كل شيء حيّ، وتفعل المستحيل حتى يدوم هذا …
و الثانية أنه لو توفّرت لصديقنا المهاجر المعجب بدولة المهجر والناقم على دولة “المنظر” (أي منظرنا نحن)، لو جاءت فرصة لمهاجرنا حتى يحكمنا بدوره، فهل سيكون مختلفا عن أصحاب الإدارة عندنا؟ …