جور نار

“الكونتراتو”

نشرت

في

احتجاج أمام مقر ولاية

كثر اللغط عن تنوع أشكال الاحتجاج لدى جهات و أجسام مهنية و أحزاب و جمعيات و غيرها، و أكثر ما رأيناه من تعاليق هو استنكار ذلك خاصة من قبل غير المعنيين بالموضوع أو المستقيلين تماما من الشأن العام حتى و لو آلت نتيجة الاحتجاج لصالحهم … و هنا أذكر صديقا قديما كان يستغرب كيف يستفيد من زيادات الأجور لا فقط المطالبون بها و المضربون لأجلها و المعرّضون أنفسهم للخطر، بل تشمل النعمة أيضا من بقي يتفرج عليهم أو رفض مساندتهم أو حاربهم أو كسر إضرابهم بضراوة …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و أكثر ما يدور على الألسنة و الأقلام، وصم الاحتجاج بـ “التطاول” على الدولة … مما يحيلنا على العودة إلى تعريف الدولة ذاتها: هل هي كيان فوقي مقدس منفصل عن المجتمع، أم هي نتاج له؟ هل الدولة في خدمة الشعب أم الشعب في خدمة الدولة؟ هل طاعة الشعب للدولة يقابله وضع الدولة نفسها على ذمة الشعب؟ بل نصل حتى إلى التساؤل عن مفهوم “الشعب” في حد ذاته هل هو أغلبية الناس أم فئة منهم أم أفراد قلائل في جهة أو سلك مهني أو طرف سياسي أو جمعياتي؟ أم نكتفي بذلك التعريف الظريف الذي أورده عادل إمام عن علاقة الشعب بالدولة في مسرحيته “الزعيم”؟ … هل إدراكنا لمفهوم الدولة مرتبط بالعقد الاجتماعي كما حدده روسو، أم نحن ننظر إليها كما توارثناها سلطة قهرية و قضاء و قدرا … من وقت البايات و الاستعمار و ما بعدهما من استبداد تواصل في المؤسسات و الأذهان  إلى 2011، و انقطع من الطرفين طوال 2011، و عاد شيئا فشيئا في الأذهان بداية من 2012 …

نحن نعرف التزامات المواطن إزاء الدولة … فما هي التزامات الدولة إذن؟ أعتقد أن الجواب عن السؤالين يكمن في العديد من فصول الدستور … الدستور تتفرع عنه ترسانة قوانين و مراسيم لا يكاد يحصرها حصر، ما يظهر منها هو واجبات المواطن و ما ينتظره من عقوبات في حال الإخلال بها … و هي عقوبات ناجزة موجعة و فورية …  فهل توجد قوانين تحدد واجبات الدولة و العقوبات التي تقع عليها في حالة الإخلال؟ … هي قليلة جدا و ضعيفة و غير منتجة … فهي خاصة تتعلق بالشكوى إلى المحكمة الإدارية سعيا وراء إلغاء قرار، و لكن و على افتراض أن إجراءات التقاضي لم تطل كثيرا، فإن مؤسسات الدولة لها الحرية التامة في احترام أحكام القضاء الإداري أو الإلقاء بها جانبا  … أو يمكن الاشتكاء بالدولة أو بأحد ممثليها لجبر الضرر، و هذا أيضا ليس سهلا و قد يأخذ وقتا طويلا جدا … و في بعض حالاته قد يقتصر على الدفع بأحد الموظفين ككبش فداء، دون أن يلحق المنظومة أي عقاب …

إذن لا تكافؤ بين دولة قوية محصنة و بين مواطن ضعيف هش، رغم أنها تستمد شرعيتها منه و لا وجود لها من دونه … توجد شعوب من غير دولة، و لكن لا توجد دولة من غير شعب … حتى دولة الفاتيكان لها “شعب” من القساوسة و الكهّان الذين ينتخبون البابا و قد يزيحونه من منصبه ǃ

الدول الديمقراطية لا تتعسف على الناس باسم القانون و الأغلبية، بل عندها الأغلبية تحكم، و الأقلية تحاسب و تحظى بالحماية … و أهمّ من هذا، الديمقراطيات تبنى على الفرد … نعم على الفرد الواحد حيثما كان و مهما كان وضعه، و من حق أي واحد أن يقاضي أعلى سلطة في البلاد و يطالبها بحقه و يجد صدى لصوته في وسائل الإعلام دون أن يسخر منه و من حجمه أحد … فذلك الواحد يعني الجمع في نظرهم، خاصة إذا كانت مشكلته قابلة للتكرار مع الجميع …

من يتطاول على من؟

ليس من حق الشعب أن يتطاول على الدولة (قطع مرافق، امتناع عن دفع ضرائب، وقف استغلال ثروات، إيقاف عمل) و لكن هل من حق الدولة أن تتطاول على الشعب (زيادة أسعار، فرض التبرع بيوم عمل، إصدار قوانين لا شعبية، السماح لحاويات قمامة بالدخول عبر الموانئ …)؟

في صورة ما أخلت الدولة بواجبها تجاه جهة من الجهات، ما العمل؟

تحرير عريضة يمضي عليها عدد من المواطنين و توجيهها نحو أقرب ممثل للسلطة (المعتمد) فيحيلها بدوره إلى سلطته الترتيبية (الوالي، و الوزير و رئيس الحكومة)

إن لم تأت بنتيجة، يقع الاشتكاء إلى نواب الجهة، يتكلم هؤلاء عن المشكلة في إحدى جلسات الاستماع مع الحكومة …

إن لم يأت ذلك بنتيجة، تتبنى الأحزاب المعارضة و المجتمع المدني و الاتحاد الجهوي للشغل الموضوع … و يقررون تحركات تصل إلى التظاهر و الإضراب و الاعتصام …

كل هذا و الدولة صمّاء بكماء عمياء … بل تواصل سيرها في الطريق الضالّ و توزيع ثروات البلاد دون عدل و تسمين القطط السمان  و رهن مصير للخارج و إعلان ذلك دون خجل … و في أثناء ذلك و كلما تصاعد احتجاج الطرف المقابل، تجد من في وسائل الإعلام و مواقع التواصل و ألسنة بعض الأحزاب من يتحدث عن مؤامرة و أجندا و يقوم بتهييج الأمن و الجيش بأن يتدخلا لفرض هيبة الدولة …

ما معنى هيبة الدولة؟

هل هي في نزاهتها و عدلها و معاملتها للمواطنين و الجهات على قدم المساواة، أم في استخدام القوة و فرض الطاعة لحاكم و لو كان ظالما؟

معطيات كثيرة (بل ربما كل ما عندنا) ستتغيّر لو عدنا إلى أصل الكلمات و طرحنا من الأسئلة أبسطها … و ليت ماسكي السلطة يبدؤون بأنفسهم و يتساءلون: ما دورنا و ما بوصلتنا، و إلى أي حد ضميرنا مرتاح مع هذا الشعب الذي نأكل من راحتيه … و خاصة يقولون، لو تنتهي الكوميديا في يوم ما، كيف سيكون مصيرنا؟

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version