طيب الذكر “جاك مارتان” لمن يعقلونه، كان مقدما فرنسيا مشهورا و محبوبا، بل كان برأيي واحدا من أفضل المقدمين في تاريخ التلفزيون… ثقافة، حضور بديهة، خفة ظل، قدرات ابتكار، موهبة متعددة تجعله ملك الكاميرا و الخشبة المسرحية في آن … لذلك اتخذ من “مسرح الإمبراطورية” معقله و بوصلة عشرات ملايين المشاهدين كل يوم أحد من أول الثمانينات إلى آخر تسعينات القرن الماضي …
السيد جاك، كان يدعو إلى برنامجه الناجح الطويل (5 ساعات) صفوة نجوم الفن من كبار فرنسا و العالم، و كانوا يلبون الدعوة بشغف و امتثال لهذا اللبق الضاحك على الدوام … و يغنون خيرة ما لديهم (لو كانوا من أهل الغناء) لنظّارة الشاشة طبعا، و أيضا لجمهور أصغر يملأ كراسي صالة المسرح الذي سميناه أعلاه … و في نهاية البث و قبل انطفاء الأضواء، كان يجمع كل نجوم الحصة مهما كانوا، و يصففهم في خط مستقيم على مقدمة الخشبة، ثم يطلب منهم محاكاته في تلك الحركة الخالدة منذ عهد موليير و شكسبير و كورناي … الانحناء أمام هذا الجمهور العزيز الذي يستحق كل الاحترام …
تلك ميزة الكبار مع الجمهور و الناس و دافعي ثمن التذكرة و دافعي فاتورة الكهرباء و دافعي الضرائب التي تدعم الفنانين في كل عصر و مصر … و يبدو أن هذه البديهية غابت عن شخص السيد عز الدين المدني الذي كدنا ننساه صراحة … فقد كان واحدا من الأسماء المتداولة منذ أربعين خمسين سنة، في زحمة الأسماء الكثيرة التي كانت تملأ ساحتنا الخصبة وقتها … من علي بن عياد إلى نور الدين القصباوي إلى منى نور الدين إلى عزيزة بولبيار إلى الرسام زبير التركي إلى حبيب بو لعراس إلى سمير العيادي إلى الدكتور الطاهر الخميري الذي ترجم عدة روائع من المسرح الكلاسيكي …
يعني يا داخل “تونس” منك ألوف … و الذين أجادوا و صفقنا لهم قابلوا في معظمهم امتناننا بامتنان أكبر والحقيقة تقال، و لكن قلة منهم راحت تتنطّع علينا خاصة في السنين الأواخر … و صار من العادي أن يخرج رأس قنّب هندي، ليقول رضى الناس لا يهمّني، أو أنا أحسن واحد رغم أنوفكم، أو هذه البلاد لا تساوي شيئا، أو ما يعنيني هو اعتراف الخارج لا اعتراف التونسيين، أو لديّ شخصية أكبر من تونس … و أصبح في وارد الأشياء أن يستعلي عندنا أحد على أبناء بلده لمجرّد انه مثّل دور “كومبارس” في مسلسل عربي أو فيلم أجنبي، و يطالب بامتيازات على هذا الأساس … و لا مزية لكربي …
سيدنا المدني جاء ذلك النهار في لقاء تلفزيوني، و ليته ما جاء … أمامه مذيعة ناشئة من شبابنا، بخبرتها المحدودة، و ارتباكها أمام الكبار و كل هذا طبيعي … و الطبيعي أيضا أن يقدّر المدعوّ جهدها و مهنتها و حق المتفرّجين الذين يتابعونها، كثيرين كانوا أم قليلين … و لكن الكاتب الكبير أصرّ على أن يفرض عليها و علينا كبره و تكبّره، و يشعرها و يشعرنا أننا حفنة براغيث في حضرة الملك لويس الرابع عشر … فأوّلا ما هذه القيافة و ما هذه الجلسة و كأنه ر م ع شركة عملاقة يجري امتحانا لطالبة شغل لا يريد قبولها … و ثانيا كانت تسأله شرقا فيجيبها غربا، و تطلب معلومة محددة فيطنب في سرد ملاحمه و سيرته العظمى و أفضاله على إشعاع تونس، متى؟ لا نعرف …
عندما عرضت عليه الاختيار بين أفضل ممثلتين لنصوصه، فوجئ و هو يرى صورة اثنتين من بنات تونس (زهيرة بن عمار و عزيزة بولبيار)، فوجئ و خاب أمله و قال كنت أنتظر أسماء من مصر و سوريا … و عند تمسك المذيعة بالنجمتين التونسيتين، ذكر لها أن إحداهما تألقت في افتتاح مهرجان بالأردن … يعني لا يهمّ إن نجحت إحداهما أو كلاهما هنا، على خشبة مسرحنا البلدي، أو في أيام قرطاج المسرحية، أو في أسبوع المسرح قديما، أو على أي من مسارحنا على كامل ولايات الجمهورية … الجمهورية التونسية … لو مثلت إحداهما في تونس و أقنعت الجمهور التونسي، و صفق الجمهور التونسي عليها و على نص للمدني … فذاك لا قيمة له … لا نبي في قومه؟ بل لا قوم لأدعياء النبوّة …
هل يحتقرنا السيد عز الدين المدني لأنه كبير و نحن صغار عليه؟ أم لأننا ـ لسوء حظنا ـ من هذه البلاد لا من بلاد أخرى يراها أعلى قدرا؟ … أما عن أنه كبير فلا أدري إلى أية درجة و بأية أمارة … على حد علمنا لم يفز من العرب، كل العرب، بجائزة نوبل للأدب سوى نجيب محفوظ … و صاحب “الثلاثية” و “ميرامار” و “أولاد حارتنا”، لم يكن قطّ مغرورا حتى بعد نوبل التي لم يتلهّف عليها و لم يتنقّل إلى ستوكهولم لأخذها، بل لبث في مكانه بمقهاه المفضّل في قاهرته المحبّبة، وسط أصحابه و معجبيه البسطاء … و هو يتبادل معهم النكات بنفس الروح السمحة التي كان يعامل بها إعلاميي و إعلاميات بلاده مهما كانوا … كبارا أم من وزن الريشة …
أما عن التظاهرات “العربية” الأكبر قدرا منّا، فالجواب ـ ذكرا لا حصرا ـ يأتي خاصة من الفنانين العرب قبل غيرهم … جاء من يوسف شاهين، و نور الشريف، و دريد لحام، و صباح فخري، و أم كلثوم، و الطيب الصديقي، و مرزاق علواش، و وديع الصافي، و مارسيل خليفة … و أيضا من مجيد الربيعي، و سميح القاسم، و محمود درويش … و عبارة الأخير “كيف نشفى من حب تونس” رددوها جميعا، و هم لم يجدوا أفضل و أروع و أكبر من جمهورنا، و مقاما أمجد من مهرجاناتنا …
و يأتي في الأخير واحد منّا، ليتعامل مع كل هذا، مع البلاد التي أعطته كل شيء، بهذا العقوق و كأنها زوجة الأب التي لا تستحق عرفانا و لا احتراما …