تابعنا على

جور نار

النجاح المدرسي والجامعي عبر المسالك المُختصرة

نشرت

في

يتوجّب عليّ أن أشير في مستهلّ هذه الورقة أن تعبير “مسالك النجاح المختصرة” ليس من صُنعي بل هو عنوان لفكرة واجهني بها صديق عزيز ذات يوم، عندما كنّا بصدد الحديث عن تدخّل الأصل الاجتماعي بنسبة كبيرة (يقدّرها بعض المختصين في العالم بما لا يقلّ عن 20 أو 25 بالمائة في النجاح المدرسي والجامعي من عدمه) …كانت الفكرة -التي تواعدنا على تطويرها سويّا ولم نفعل- هي أنه في ظل استحالة تحييد الظروف المُعيقة للنجاح على المدى المنظور خاصة في ظل حكومات متعاقبة تعاني هي نفسها من أثر عقمها الموروث، لا بد من اجتراح مسالك أو ممرّات مُختصرة لا نظامية des raccourcis نفتحها ونُعبّدها أمام بناتنا وأبنائنا شرط توفّرها على عنصري الفاعليّة المباشرة وضعف الكلفة المادية.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

فأمام البداهات التربوية الموجِعة اليوم في بلادنا والتي يمكن اختزالها في أن الاستبسال في شحن التلاميذ بواسطة الدروس الخصوصية يساهم في تحصيل علامات مرتفعة، وأن بعض الأساتذة المتمرّسين لا يسلّمون مفاتيح السيطرة على أعتى تمارين الرياضيات أو الفيزياء إلا في سياق الحصص المدفوعة أجورها سلفًا، وأن بعض الاختصاصات الجامعية صعبة المنال في الجامعات العمومية لدينا بالنظر إلى حجم المعدّلات المطلوبة، تخرّ صاغرة في عديد العواصم العالمية أمام يُسر الأحوال وسخاء الأموال… حيال هذه البداهات لا يبقى من آفاق واعدة أمام “الجيوب الحافية والحسابات البنكية العارية” سوى انتهاج “القصّات العرْبي” التي تختصر المسافات وتلتفُّ على الحواجز المعطّلة وتُجانبُ نقاط التفتيش المنتصبة بإحكام في كل مستويات الانتقاء المدرسي والجامعي.

وهذه بعض المسالك المختصرة :

المسلك المختصر الأول : الاقتناع بدءًا بأن الذكاء والدّافعيّة موزّعان بعدل بين جميع الناس

من الكليشيهات التربوية السائدة أن الأوساط الاجتماعية الميسورة بوسعها أكثر من غيرها أن تنقُل لأبنائها ثقافة شفوية ومكتوبة تكون قريبة جدا من الخطاب المُتداول مدرسيّا (من خلال قراءة الكتب والسفر والرحلات والتبادل المُتيحة جميعها لخطاب لغوي مُهيكل). نعم هذا مهمّ وحاسم وبارز لنا بالعين المجرّدة داخل الأقسام وخارجها، ولكن لا يجب أن يتحوّل هذا الإكراه إلى شمّاعة نُعلق عليها فشل أبنائنا في دراستهم. فكم من أمّ أميّة أوصلت أبناءها إلى أعلى المراتب الدراسية، وكم من أب مزارع تابع دراسة أبنائه بحرص وشغف وانتباه جعلهم يذهبون إلى أبعد المراقي. إن عامل عدم توفّر الكتاب تعلّة مردودة، وعدم القدرة على إجراء الزيارات المُخصّبة لخطاب الأطفال ولغتهم منطق واهٍ لأن الوسط الطبيعي الذي يسبح فيه هؤلاء قادر على إلهام أكبر الشعراء والكتّاب، والذكاء موزّع بعدل بين جميع الأطفال، والدافعية محرّك داخلي وعائلي يُصنّع حول أبسط الأكلات، وتثمين الذات يولّده التشجيع والتحفيز دون كلل … هذا كل ما في الأمر. اقرؤوا ما يتداوله الباحثون في النجاح والفشل المدرسيين عبر العالم لتكتشفوا أن هذا كل ما في الأمر. فــ “يا كشفتهم” أولئك الأولياء الذين يتباهون أحيانا بأن “قراية أولادهم” من مشمولات أمهم، أما هو فتكفيه شقاوة المشهد السياسي وأداء اللاعب صلاح في فريق ليفربول.

المسلك المختصر الثاني : لا تجعل الرياضيات تقتلك، افتكْ بها أنت وأسّسْ جمهوريتك الفاضلة

أعتقد شخصيا أن واحدة من المعضلات الأساسية التي تُعيق تطوّر منظومتنا التربوية هي الزجّ بحشود عريضة جدا من التلاميذ في مسارات دراسية أساسية طويلة لا يقدر على النجاح والتألّق فيها إلا عُشُرهم أو أقلّ. ويبدأ مسار “التطويل” التعسّفي في الدراسة مباشرة بعد المرحلتين الابتدائية والإعدادية وصولا إلى باكالوريات عامة لا يستحق التعليم العالي الوازن والواعد إلا عددا ضئيلا من الحاصلين عليها.

كم من سنوات مهدورة في تعقّب معارف مجرّدة ليس لها مستقرّ، وكم من أعمار ضُيّعتْ في محاولة ترويض الصرف والعروض والنحو ثم ننتبه عندما يفوت الأوان ونقول “لو كان النحو رجلا لقتلته” !

إن السعادة والغِبطة اللتين نشعر بهما جميعا عندما نعثر على حِرَفيّ جيد يتمتّع بمهارة خاصة في السّباكة والحِدادة والميكانيك والكهرباء والنّجارة والإلكترونيك والبِناء والتزويق وتقليم الأشجار… دليل قاطع على أن هنالك طلبا اجتماعيا كبيرا على هذه المهن وعلى هذا الملمح بالذات لممارسيها. يكفي أن يتوفر شرط الاستقامة والاقتدار حتى يكون الحريف مستعدّا لدفع أي مبلغ يطلبه الأخصائي (كما لا يناقش أيضا تعريفة الطبيب المختص أو خدمات وكالات الأسفار). ثم وفق أية معايير يعتبر المجتمع أن مهنة الطب أو الهندسة أفضل شأنا أو أكثر اعتبارية من مهنة طبّاخ بشهرة عالية أو خبّاز بمهارة نادرة تتلقفه أفخم النزل وأكبر القصور؟ 

لكن يظلّ الشغف والولع الشرط الأساسي الأول قبل السؤال التهرّبي “محسوب ثمة تكوين هوّ وثمّة مكوّنين وثمّة مراكز تكوين أصلا ؟ كل شيء عالحيط في تونس !” لكي يستطيع الشاب أن يحلُم بوضع يكون فيه سيّدا وبانيًا لمربّع محصّن لا ينافسه فيه أحد. وهو وضع طبيعي يسمح تماما بأن يُقبل صاحبه على كل لذائذ الدنيا وفاكهتها.

المسلك المختصر الثالث : الدراسة المجانية عن بعد في أرقى الجامعات العالمية

يتمثل هذا المنوال الدراسي الجديد (الذي اتخذ منحى جماهيريا واسعا منذ 2012 حسب جريدة نيويورك تايمز) في دروس عن بعد مفتوحة للجميع تؤمّنُها جامعات عالمية مرموقة ومؤسسات صناعية وتجارية خاصة وعامة، وتكون مُفضية عادة إلى إشهاد مُعترف به لدى أغلب المُشغّلين العالميين بعد حصص منتظمة ومداخلات تأطيرية للأستاذ المشرف وتمارين وامتحانات نهائية… وذلك في أغلب الاختصاصات المُتاحة في الجامعات العمومية والخاصة.

ويُذكر في هذا السياق أن الاختصاصات الخمسة المرغوبة خلال السنوات الأخيرة تدور حول “التعلّم الآلي أولا ، أي العلم الذي يسمح للحواسيب بأداء مهام لم تكن مبرمجة بشكل صريح في هذا الاتجاه، ومن بين التطبيقات الموجودة نذكر العربات الآلية وبرامج التعرف الصوتي الخ… ، والتحولات الطاقيّة والبيئية ثانيا والذكاء الاصطناعي ثالثا وتعلم كيفيّة التعلم رابعا (أي التعرف على الاشتغال العام لمسارات التعلم وتجريب مختلف التقنيات والمقاربات التي تسمح بتحسينها) وكيف تصبح مبادرا للتغيير خامسا (بمعنى إحداث مشاريع تجمع بين النفع الاجتماعي والوجاهة الاقتصادية).

تصوّروا حجم المغانم الدراسية والتشغيلية التي تتوفّر لشابّ لم تقدر عائلته على دفع معاليم ترسيمه بجامعة هارفارد الأمريكية (أكثر من 100 ألف دولار سنويا موزعة بين كلفة الترسيم والأكل والإقامة والكتب والرحلات) لكنه باستطاعته إحرازها (جزئيا على الأقل) دون دفع مليم واحد ودون مغادرة حاسوبه !!!

المسلك المختصر الرابع : اللغات، حصان مُجنّح كما في الأسطورة الإغريقية

إذا أردت أن تهزم المقولة الفرنسية “يتكلم الانكليزية كما تتكلمها بقرة إسبانية“، ليس أمامك سوى الارتماء حافيا عاريا في أحضان اللغة التي تريد تعلّمها، لأنه تبيّن خلال العقود الأخيرة أن الإشباع اللغوي لا يكون في كتب النحو والصرف المغلقة وممارسة رياضة السير عبر ألغام التقعيد والتعقيد القابلة للانفجار في منعطف جملة أو شكل إحدى كلماتها، بل إن المدارس الحديثة تعتنق اليوم مقاربة “الشفوي بالكامل” أي الاستماع إلى اللغة وتعلم قواعدها بشكل ضمني وتلقائي والتشبّع بمفرداتها ونبراتها ونغماتها قبل الإبحار في تعلّم ضوابطها التنظيمية… ويكون ذلك من خلال الاستماع المستمر إلى ما يُذاع بتلك اللغة ومشاهدة الأفلام وقراءة القصص والتواصل الشفوي مع متكلّمي تلك اللغة دون خشية كلما تيسّر ذلك. والدليل أن كبار معلّمي قواعد اللغة (أيّة لغة) غير قادرين في معظمهم على كتابة نص جيّد. ثم إن ربط تعلم اللغة بمدارات الاهتمام الحميمية لدى الطفل، طريق جيدة لمضاعفة شغف الاستقواء لغويا. كأن يتعلم الطفل الانكليزية لأنه يعشق الموسيقى الناطقة بهذه اللغة أو أن يتعلّم الفرنسية لأنه يريد أن يكتب رسائل مُبهرة إلى صديقته في مونتريال…

…ومسالك أخرى يجدر الاهتمام بها أيضا :

بالإضافة إلى كل ذلك، لا يمكن أن نُهمل مسالك مختصرة أخرى تبدو بديهية وفي متناول جميع الناشئين، لكن العائلة والمدرسة لا يطوّرانها بشكل كبير حتى تُسهم في دفعهم دفعا نحو “أخذ الكلمة” والتعبير ووضع كلام على مشاعرهم وتحويل انفعالاتهم إلى خطاب وحركاتهم الجسدية الغاضبة إلى شيء منطوق… مثل القراءة بصوت عال والنشاط ضمن الجمعيات والنوادي والحثّ على معرفة ما نريد والتدريب على البرهنة والتربية على التصرف في نفايات الكلام والتشجيع على تمرين الكتابة المستمرة الخ…

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

    نشرت

    في

    محمد الزمزاري:

    ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

    ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

    لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

    هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

    أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 89

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

    عبد الكريم قطاطة

    وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

    وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

    قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

    لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

    وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

    سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

    عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

    وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

    ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم ..الورقة 88

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

    عبد الكريم قطاطة

    وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

    في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

    اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

    اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

    لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

    في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

    عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

    اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار