للمرة لا تدري عددها يصاب منتخب كرتنا بالخيبة، بل يصيبنا في مقتل … وللمرة لا تدري عددها، يعود ممثلونا تحت وايل من الشتائم أرفقها نزع صفة “نسور قرطاج” عنهم ليوسموا بـ”الفلالس” والفرارج والبزاوش وكافة أسماء العصافير … وللمرة لا تدري عددها تدخل شتائمنا من أذنهم هذه إلى أذنهم هذه و لايعتذرون حتى … وإن اعتذر بعضهم فبشكل خفيف لطيف ومن أطراف الشفاه كما يقال …
ولنقل أيضا: للمرة الألف يتم مسح كل الذنوب في شخص أو شخصين … في مدرب أو لاعب أو أكثر وهذه المرة أضيف إليهم رئيس اتحاد الكرة القابع في حبس المرناقية … ويتم التخلص من أحد هؤلاء وهو الناخب الوطني غالبا ويقع التنفيس على صدور الجميع بانتداب بديل يناسب المزاج العام … فإذا كان المدرب المغضوب عليه أجنبيا، تقوم قائمة المنادين بابن بلد أي مدرب تونسي تحت شعار عندنا كفاءات هاهي تضرب تصرع في الخليج وليبيا وجيبوتي العظمى … وإذا كان الناخب المنكوب تونسيا (كحالنا اليوم) تتعالى الأصوات في شبه إجماع بضرورة جلب مدرب أجنبي … وتتكرر عندنا الاسطوانة ختام كل موعد دولي نفشل فيه ذريعا …
قليلون من عقلائنا من أرادونا أن نتجاوز مسألة الأشخاص ولعبة الكراسي الموسيقية إلى ما هو أعمق … ولكن للأسف كانت أصواتهم تضيع دائما وسط الغوغاء وصراخات ذوي المصالح ومصفي الحسابات وأصحاب هذا الواقف في صالون الانتظار أو ذاك … وتختلط الأوراق على نحو عجيب والجماعة يلعبون على قصر ذاكرة العامة وسرعة انفعالها، وكل همّهم كسب أكثر ما يمكن من وقت ومن منافع قبل أن يستفيق الغافلون … حدث لنا ذلك في أول الثمانينات (نكسة ما بعد الأرجنتين) والكل يذكر سباعية ماجر وبلومي ومناد … وحدث لنا ذلك في 94 وفضيحة ماتش مالي وكوليبالي… وحدث بعد ذلك وأثناءه ولم يتغير تقريبا شيء … يمكن في 94 خرج كلام عن ضرورة “إصلاح رياضي” وتبنته الدولة كشعار … ولكن عند التنفيذ سقط كل شيء في الماء ولم يتم إصلاح ولا يصلحون …
الدولة … وصلنا الآن إلى الكلمة المفتاح التي من المفروض أن يبدأ بها كل سؤال جواب … في السابق كان الشأن الرياضي كغيره من الشؤون العامة، موضع تخطيط علوي واستراتيجيات ورصد أموال ومراقبة لصرف تلك الأموال … وكانت القاعدة مع الأشخاص والمناصب هي التعيين، إلى درجة أننا كنا نظن رئيس الجمعية نظيرا لوالي الجهة، ورئيس الجامعة وزيرا من الوزراء … وللحقيقة كان ذلك نتيجة متشابهات عدة: الهندام، اللغة الموزونة، قلة الظهور في وسائل الإعلام، العمل المنضيط ضمن سياسة الدولة … والحزب الحاكم أيضا …
قل في تلك المنظومة ما تريد، قل عنها متسلطة، قل هي فوقية بلا انتخاب، قل إنها تخلط الرياضة بالسياسة، قل جلساتها العامة هادئة ولا عراك فيها ولا صدام أفكار ولا قرارات تنبع من القاعدة إلخ … ولكن الحاصل أنها نجحت في أمور كثيرة صرنا اليوم بعيدين عنها بالسنوات الضوئية … كان اسم تونس يرعب أجوارنا وبني قارتنا كلما شارك ممثلونا في محفل هناك … وكان زوارنا ينبهرون ببُنانا التحتية الجيدة والمصونة والتي كانت في مقدمة إنشاءات القارة … ومن ذلك مثال طريف عن إعجاب أم كلثوم بقصر الرياضة بالمنزه الذي غنت فيه وعبرت عن إعجابها بهذا الإنجاز الجميل الجديد وقتها (1968) … وقد جعل قادة العرب والأفارقة من تونس مثالا ساروا على نحوه في تجهيز بلدانهم بمرافق رياضية لم تكن موجودة لديهم قبلا …
لن نطيل في إنجازات الرياضة االتونسية لتلك السنوات (بل العشريات) البعيدة سواء من حيث الملاعب والقاعات والمسابح، او من حيث حوكمة التسيير أندية وجامعات، أو من حيث ديناميكية الممارسة الرياضية ودمقرطتها … كانت عندنا الأندية المدنية، والأندية العسكرية، والرياضة المدرسية والجامعية، والرياضة النسائية، والرياضة وشغل … كانت كل نهاية أسبوع رياضية بامتياز، سواء في الملاعب أو المعاهد الثانوية، أو ملاعب الأحياء أو أية أرض خالية في مدننا وقرانا … خلايا نحل بعشرات آلاف الممارسين ومئات آلاف المتابعين … والنتائج جاوبت سريعا، والدليل هذه الألقاب والميداليات الدولية الكثيرة التي تملأ خزائن جامعاتنا، وتلك الصور الرائقة لأبطال صُنعوا في تونس وصنعوا اسم تونس …
غير أن رياح الخوصصة حين هبّت على ربوعنا جرفت في طريقها كل شيء … صناعتنا، تجارتنا، فلاحتنا، ثقافتنا، إعلامنا، تعليمنا، بيئتنا، مجتمعنا، قيمنا … و إذا كانت الخوصصة في البلاد المتقدمة تعني تفويض بعض الأنشطة إلى قطاع خاص مسؤول وناجع، يحتكم إلى قواعد سوق عادلة ودولة تلعب بجدية دورها الرقابي … فإن في تونس (كغيرها من البلاد المنكوبة) جاءت الخوصصة بمعنى استقالة الدولة كليا من جميع أدوارها، وترك الأفراد على هواهم ينتظمون في لوبيات مافيوزية ويهجمون على كل القطاعات هجوم الجراد … يستفيدون ولايفيدون، يستهلكون ولا ينتجون، يقلعون ولا يغرسون … وكلما وجدوا قطاعا قلّ ربحه هجروه، فإذا هو أثر بعد عين … والدليل رياضيا، اختفاء عديد الرياضات التي لم تعد تدر اموالا سهلة على مموليها … وصرنا نتحسر في كل ألعاب أولمبية ونحن نرى بلدانا تحتل جدول الميداليات بفضل تلك الرياضات التي ماتت في تونس … وصارت طاقة شبابنا الفائضة تجد طريقها إلى مسالك أقل براءة وأكثر سوادا …
بعد هذا ودون لف ولا دوران … من يريد أن يُصلح من شأن كرتنا لا يمكن له إغفال نقطتين … الأولى أن ذلك يجب أن يكون ضمن إعادة نظر الدولة في سياستها الرياضية عامة … وثانيا أن يعود لمؤسساتنا الرسمية دورها المركزي في تنفيذ تلك السياسة … في الكرة أو غيرها، لنفهم أن الرياضة باستهدافها الفئات الشابة أساسا، هي نشاط تعليمي تربوي … ومن هنا، لا بد أن يتم التعامل معه تعاملنا مع التربية والتعليم … أي أن يخضع لبرامج وطنية يعدها مختصون أكفاء وتشرف على تنفيذها أو مراقبة تنفيذها وزارة الشباب والرياضة … بداية من الملاعب والقاعات، وصولا إلى نزاهة المسابقات الرياضية الوطنية، التي لا تقل مصداقيتها خطورة عن مصداقية الامتحانات الوطنية …
ويمر ذلك برقابة صارمة على برامج التكوين، وأهلية المكونين، ومقاييس استكشاف المواهب وإدماجها وصقلها والاستفادة منها في الأندية والمنتخبات … ينطبق هذا على تكوين اللاعب وأيضا المدرّبين والمسيّرين والمنظمين والحكّام … حتى الأشخاص والشركات المتخصصة في صيانة المرافق الرياضية يجب أن تخضع لنفس القوانين والتمشيات … وفي كل الأحوال، مطلوب أن يخضع كل نشاطنا الرياضي للبرمجة أولا والرقابة ثانيا والمحاسبة القاسية والفورية ثالثا… وأن تتذكر الوزارة أنها تمثل الدولة، أي إرادة المجموعة وجميع إمكانياتها، وأن تسميتها كوزارة “إشراف” تسمية مثقلة بالمعاني … وهي غير وزارة التشريفات …
يكفي أن يضع وزير الرياضة أمام عينيه هدفا واحدا: لن تُهان بلادنا بعد اليوم وفي أية مسابقة دولية كانت …