دفءُ نار

الوزارات التونسية اليوم بحاجة إلى زعماء صناديد لا إلى وزراء موظفين

وزارة التربية نموذجا …

نشرت

في

يقول فيكتور هيغو “إن سقوط الرجال العظماء يُحوّل التّافهين و الصّغار إلى أناس مُهمّين…و عندما تشرف الشمس على المغيب في الأفق، يُصبح بإمكان أصغر حصاة أن تصنع ظلا كبيرا و تتوهّم أنه أصبح لها شأن” (مترجم).

<strong>منصف الخميري<strong>

إن الأزمة التي تمرّ بها تونس اليوم على كل المستويات السياسية و الاقتصادية و المالية… أصبحت أزمة مُركّبة و عميقة و مُنذِرة بتداعيات خطيرة جدا على السّلم الاجتماعية و السيادة الوطنية و مدنية الدولة و مركزيتها و أمن البلاد و استقرارها.

و كأنّ بلادنا أصبحت غير قابلة للحُكم اليوم أمام استفحال الأزمة و شمولها لكل القطاعات و المرافق العمومية بدون استثناء، و لأن المرحلة التي كان التونسيون يتحدثون فيها و بحماس شديد عن الإصلاحات الكبرى أي اصلاح المالية العمومية و الصناديق الاجتماعية و إصلاح منظومة التربية و التعليم و الصحة و النقل العموميين…أضحت مرحلة منتهية تجاوزتها تطورات السنوات الأخيرة و التي تميزت خصوصا بـــ :

  • فقدان الأمل و الثقة في إمكانية استرجاع الدولة لمكانتها المتآكلة أصلا و بالتالي قدرتها على إجراء أية إصلاحات جوهرية كفيلة بإنقاذ قطاعات استراتيجية متداعية للسقوط والانهيار التام.
  • إفراز الانتخابات لنُخب سياسية لا تحمل أي مشروع حقيقي للإصلاح بل أكبر هواجسها (بالنسبة إلى العدد الأكبر من الذين يتصدّرون المشهد البرلماني بصورة خاصة) السعي إلى الإثراء السريع و ردّ الجميل للّوبيات التي دفعت بهم هناك أو التحصّن بمؤسسات الدولة للإفلات من الملاحقة القضائية أو كذلك الاستمرار في المحاولات الناعمة لتركيز دعائم المشروع المجتمعي الجديد الذي رأينا مؤشرات قوية له في 2011 و 2012 و 2013 بصورة خاصة (استعراض القوة العضلية و حتى المسلحة، الاغتيالات الفكرية و السياسية على قاعدة التكفير، التعليم الموازي، الخيم الدعوية، التّجنيد و التّسفير، الشّرطة الإسلامية، الخ…).
  • استفراد السياسي (باسم شرعية الصندوق و ديكتاتوريته) بالرأي خاصة التشريعي منه و إرغام معظم الكفاءات و الخبرات على الانسحاب القسري من المشهد حتى تعطّلت كل المرافق و أصبح الحديث عن الاصلاح من قبيل الترف و تمضية الوقت.

إذا كان الإصلاح – بما هو ترسانة كبيرة من المراجعات و التجديدات الجذرية و المُكلفة- له ثمن باهظ، فتأجيل الإصلاح له ثمن أكثر فداحة بكثير.

لنأخذ مثال إصلاح قطاع التربية والتعليم و التكوين نموذجا. تأجيل الإصلاح يعني (ببساطة و في غير رؤية تحليلية تليق بالدراسات الأكاديمية المتخصصة) :

  • تواصل النزيف بعشرات الآلاف من التلاميذ المُغادرين سنويا لمقاعد الدراسة بدون توفر الحد الأدنى من التحصيل و التكوين المؤهِّلين للاندماج في الحياة.
  • مساهمة تفشّي وباء كورونا و اعتماد نظام الدراسة بالتّفويج (كما يقول إخوتنا في الجزائر) و ارتفاع نسب الغيابات و مقاطعة بعض الدروس و اندثار دفاتر المناداة … في التّقليص من حجم المكتسبات الدراسية و المعرفية بما ألقى بآلاف الشباب واليافعين في شوارع و أزقّة وبِطاح و “طوابي” و خرائب تنمو فيها كل أنواع الحشائش و الطفيليات و الفطريات المُبيدة.
  • تواصل العمل بمسالك و شعب دراسية في الثانوي و في التعليم العالي هي عبارة عن “منافذ مستودعات” لا تؤدي إلى فرص حقيقية لا دراسيا و لا تشغيليا.
  • استمرار اختلال التوازن المُريع بين الجهات و المؤسّسات التربوية داخل نفس الجهة تحصيلا و تأطيرا و فرص نجاح.
  • اختلال التوازن بين الشعب الدراسية الذي أخذ أبعادا مُرعبة خلال السنوات الأخيرة حيث تورّم حجم الشعب القاحلة و العقيمة (الآداب و الاقتصاد و التصرف على نُبلهما)على حساب الشعب العلمية التي تكاد تندثر في بعض الجهات و بعض المعاهد (نعم تكاد تمّحي تماما من بعض الجهات !)… و إذا اعتبرنا أن أنجب التلاميذ يختارون الشعب العلمية … لكم أن تتصوروا طبيعة المآسي المنجرة عن الزجّ بأجيال كاملة في شعب لا تؤدّي إلى أي شيء أو تكاد.
  • ارتفاع منسوب اليأس في صفوف العائلة التونسية و المنجرّ عن اعتبار التعليم العمومي لم يعد يتّسع للأسف إلا لنسبة مائوية ضئيلة بمقدورها التأقلم مع مقتضيات بعض الشعب العلمية و خاصة الرياضيات في الثانوي و بعض العروض التكوينية الجادّة في التعليم العالي فحسب.
  • التقدم خطوات حثيثة أخرى في تهميش منظومة التكوين المهني و توقّفها عن لعب دور الرافد الأساسي لاستيعاب الموهوبين يدويا و حِرفيّا و مهاريا و فتح معابر مستجدّة أمام من لا يستطيعون متابعة الدراسات التقليدية الطويلة و توفير كفاءات تقنية متوسطة في مجالات عدة مجتمعنا (و حتى سوق الشغل العالمية) في أشدّ الحاجة اليها من ناحية اخرى.

هذا جرد لبعض الإخلالات الكبرى التي تنخر منظومتنا التعليمية و تُهدّد بتهاويها التام اليوم، و لوْ يُتاح لي شخصيا أسبوعا تشريعيا و تنفيذيا واحدا لعرضت على التصديق جملة من الإجراءات العاجلة الكفيلة حسب اعتقادي المتواضع بإيقاف النزيف و إنقاذ ما تبقّى من بناية المدرسة التونسية العريقة، و ذلك على النّحو التّالي :

أولا : إرساء هيئة وطنية مستقلّة تماما و تتكوّن من خبراء الوزارات الثلاث : التربية و التعليم العالي و التكوين المهني (في ظل عجز الدولة عن توحيدها) من أجل ضمان الانسجام و الترابط بين الإصلاحات الموضعيّة التي من المفروض إقرارها بداية من السنة الدراسية و التكوينية و الجامعية القادمة.

ثانيا : بعث بنك وطني للتربية تتأتّى موارده بصورة أساسية من أداءات قارّة تُوظف على الثروات الكبرى و الشركات الأجنبية العاملة بتونس و المساهمات الطوعيّة للتونسيين العاملين بالخارج و سائر المدافعين عن المدرسية العمومية من الميسورين… و يعتني بصورة أساسيّة بتعهد المنشآت التربوية و تجهيز مراكز التكوين و دعم المخابر الجامعيّة البحثيّة.

ثالثا : إعادة الاعتبار للمطالعة باللغات الثلاث و التعبير الشفوي و إقرار إجباريّتهما و إقرار خطة وطنية في المجال و إسنادها تكوينا و تحفيزا و تأطيرا. ولم لا رصد رُبع الميزانية المخصصة لتنقل إطارات الدولة و نواب البرلمان إلى الخارج من أجل تمتيع المعلمين و الأساتذة و التلاميذ المتميّزين في هذا المجال بإقامات لغوية في بعض البلدان المعنية بتلك اللغة ؟ !

رابعا : وضع هدف وطني يُطلق عليه “هدف الــ 1 % زيادة في نتائج الباكالوريا في كل الجهات” مع ضمان مقاومة “المنشطات المغشوشة” … و إذا تبيّن أن الارتقاء بنسبة 1 % في النتائجممكنة فذلك يعني منطقيا أن تدني النتائج ليس قدرا محتوما و أن وزارة الإشراف تمتنع قصدا عن بذل مجهودات هي قادرة عليها بالوسائل و الامكانيات و الموارد المُتاحة حاليا.

خامسا : القيام بمراجعات أولية فورية في خارطة المسالك و الشعب من خلال اطلاق خطة وطنية للنهوض بالرياضيات و المواد العلمية و حذف شعبة الإعلامية (مع الإبقاء على الاختصاص  كمكوّن أساسي في باقي الشعب) و التقليص ‘لى أدنى المستويات من عدد الموجهين إلى شعبتي الاداب و الاقتصاد و التصرف (10 بالمائة على أقصى تقدير) و تعميم مخابر التقنية على كل المعاهد.

سادسا : إدراج المسالك التكوينية المُمهننة كمسالك توجيه رسمية ضمن المنظومة التعليمية و التكوينية بصورة عامة بعد التاسعة أساسي (بالنسبة الى كل من لا يتوفّر على إمكانيات حقيقية لمواصلة الدراسة بالتعليم الثانوي الطويل)… و خلق معابر تنافذ مرنة بين المنظومتين في كل المستويات الدراسية مع تمكين تلاميذ مستوى المؤهل التقني اختياريّا من اجتياز امتحان الباكالوريا و الحائزين على المؤهل التقني من الالتحاق بالتعليم العالي (كما هو معمول به حاليا فيما يخص حق الحائزين على الباكالوريا من الالتحاق بمسالك التكوين المهني في مستوى مؤهل التقني السامي).

سابعا : تخفيف العبء على تلميذ الباكالوريا من خلال إعفائه من دراسة المواد التي لا يحتاجها مُطلقا في توجيهه الجامعي كل حسب نوع الباكالوريا الذي ينتمي إليه.

ثامنا : الاستعداد لوجستيّا و على مستوى الموارد البشرية للاستفادة القصوى من التدفّق العالي للأنترنات بحلول تكنولوجيا الجيل الخامس.

تاسعا : الإعلان بصفة مبكّرة عن إجبارية امتحانات السادسة ابتدائي و التاسعة إعدادي.

عاشرا : مراجعة النظام التأديبي بصورة فوريّة باتجاه فرض أكثر صرامة و التزام بالضوابط المدرسية (مثل زجر المخالفات و منع الهواتف الجوالة و فرض الزي الموحد في المدارس الابتدائية…).

لا أعتقد مُطلقا أن التذرّع بالاعتراض المحتمل للنقابات و الأحزاب والجمعيات له ما يبرره لأن جل هذه المقترحات لها وجاهة مفروغ منها و تستفيد منها كل المجموعة الوطنية بصفة آنية و مباشرة…إلا بالنسبة إلى من يُرضيه الوضع القائم و يخدم مصالحه.  

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version