مثلما ذكرنا في الحلقة الرابعة، فإن الحركة اليسارية بتونس لا سيما خلال الفترة الممتدة بين السبعينات و التسعيات و ما بعدها لم تكن رائدة النضالات السياسية فحسب، بل لقد نجحت في تطوير كفاحها لتشمل الميادين الثقافية من مسرح و سينما و شعر و قصة و أغاني ملتزمة و إعلام مما خول لهذه الحركة الشاملة الفضل في قيام ثورة 2011 التي لم يتمكن اليسار من استثمارها لعدة أسباب موضوعية تتمثل في الحملات المحمومة و التكفير بالإضافة إلى المشاكل التنظيمية و ارتباك القيادات في تصدر الحركة الثورية مما أفسح المجال لاستيلاء القوى الظلامية على الحكم و تغولها خلال السنوات العشر الماضية جراء استغلالها للأحاسيس الدينية و دعمها من جهات أجنبية …
إن المتمعن في تتالي تصدع الحركات اليسارية بالأمس (العامل التونسي) و اليوم (الجبهة الشعبية).يدرك بسرعة أن اليسار التونسي الذي لا يمثل وحدة متجانسة و يختزن خلافات تكتيكية و استراتيجية قد فشل أيضا في نسج و ترسيخ مواقف موحدة تجمع تحت ظلها بين الطوائف و التوجهات حول أرضية براغماتية تدعم حضورها على الساحة السياسية و تسمح بالوصول إلى مركز القرار و التغيير الذي تهدف إليه منذ أكثر من قرن أي تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي التونسي سنة 1920..
لقد بدأت اليوم الساحة الوطنية تفصح عن مواقف معروفة بالراديكالية و مسكونة دوما بالمواقف الرافضة بقوة لرجوع النظام السابق أو “بذوره” و “أحفاده”حتى في ظل متغيرات جوهرية إثر ثورة كنست مفهوم الحزب الواحد و البرلمان المصفق و في ظل حرية رأي وصحافة و إعلام افتراضي و عودة الثقة لشعب استعاد اعتداده أمام أية سلطة حاكمة و في مقابل ذلك تلوح بظلال تقارب مع حركة النهضة ..و أخرى اصلاحية تحافظ دوما على فرضية تقاربها مع “مشاتل” النظام السابق المذكور مثلما فعلت ذلك مع حكومات نهضاوية إثر ثورة 2011.
و بين هذه و تلك تتأرجح توجهات أخرى قد تكون اليوم أقرب إلى الراديكالية البراغماتية و المحافظة على أطروحاتها و أولها مواجهة الأطروحات الإخوانية الأكثر خطورة و التذكير بمسودة دستور 2012 للوقوف على حقيقة الخطر الذي تمثله ..و بخصوص الموقف من الحزب الدستوري الحر الذي اكتسح الساحة بقوة و على الرغم من مشاركته الرؤية الليبيرالية مع الإخوان فإن الاعتقاد أو التذرع بأن الدستوري سيعود إلى منظومة الحزب الواحد أو مغازلة الإخوان مثلما فعل قائد السبسي يعدّ أمرا مستبعدا … و للتذكير فإن نظام بن علي قد احتضن عددا من اليساريين و كذلك حزب “نداء تونس”التجمعي في أغلبيته و أهدافه قد احتوى على شريحة هامة من اليسار …
ترى ماهي الذرائع و الأسباب التي أوكلت فيها بعض الجهات اليسارية مهمة محاربة منظومة الإخوان إلى الدستوري؟ و هل سيلتقي الإخوان و الدستوري هذه المرة أيضا؟. ..إن التعامل في نظر بعض المناضلين اليساريين يجب أن يتم استنادا إلى مواقف الحزب الدستوري الحر من طاقة التغيير التي يحملها أو لا يحملها و استعداده لتجاوز هندسة الحكم و مؤسسات الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية لاحقا في حين أن حكم الإخوان طيلة العشرية الماضية قد أثبت فشله الذريع على جميع المستويات .. كما أن هندسة حكم الإخوان قد أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس الاقتصادي و دفعت إلى بث التفرقة الجهوية و تمزيق نسيج المجتمع التونسي و هو ما لم يقم به أي نظام سياسي سابق قبل الثورة …
لأجل حرية …
… الشعب التونسي
إذن ماهي محصلات ثغرات اليسار و شروط نهوضه من الكبوة؟
يبدو أن ضعف الخطاب السياسي قد أصبح أيضا غير مواكب للعقلية الجديدة لدى عامة الشعب و الشباب منه بالخصوص و المطلوب اليوم هو طرح خطاب قوي مقنع دون شعبوية و مد الشعب بالحقائق التي يعيشها و سبل الخروج من الأوضاع التي تردى فيها بسبب سياسة رعناء تستوجب التغيير الجذري بسرعة
—-على الرغم من تماسك المخزون القاعدي لليسار و أيضا تمسكه بأطروحاته فإن القيادات لم توفق في تشبيب أحزابها و بعض قياداتها وقد آن الأوان لذلك
—-اختلال في حشد القواعد بسبب النقص الملحوظ في دعم التمثيليات الجهوية و المحلية القاطرات الأساسية لدفع الحملات الانتخابية و نشر أطروحات اليسار النبيلة على النطاق الشعبي و مجابهة الحملات المحمومة من طرف خصومه التاريخيين
—-ارتباك في تحديد أولويات النضال و ترتيب الخصوم الأشد خطرا على تونس و تقييم ذلك على أسس المصالح الوطنية لا الذاتية أو الوصولية و في نظرنا و نظر العديد مما يستوجب التذكير بمسودة دستور جوان 2012للوقوف على مكامن الخطر الداهم على البلاد و تحديد الخصوم و خطورة التيار الإخواني.
و لا قطع رؤوس …
… و لا سبي نساء
–رغم أن الحزب الدستوري الحر يشترك في الرؤية الليبرالية مع النهضة فإن الاعتقاد أو حتى التذرع بأنه سيعيد منظومة الحزب الواحد و البرلمان الواحد و يتراجع عن مكاسب المرأة و يقضي على حرية الرأي و الصحافة، يعد تحليلا ساذجا أو استبلاها لعامة الشعب.
—و على أية حال فإن التعامل الأصح مع حزب “أحفاد”الزعيم بورقيبة يجب أن يتم استنادا إلى قدرته على التغيّر و التغيير و مدى استعداده لتجاوز هندسة الحكم و مؤسسات الخيارات الاقتصادية مقابل فشل النهضة و تعميقها للهوة الاجتماعية و الجهوية و لا ضرورة للتاكيد اليوم بأن طريقة حكم النهضة لمدة عشر سنوات خلت قد أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس الاقتصادي و تمزيق نسيج المجتمع التونسي. فهل تخلت بعض الأحزاب الراديكالية عن مواجهتها الحادة للمد الإخواني لصالح الدستوري؟
—إن مراجعة الجانب التكتيكي باتجاه مواكبة المتغيرات و العقليات الجديدة دون المس من الإستراتيجية و الأطروحات الأساسية يعد أمرا حتميا.
—أخيرا ضرورة القيام بعمل مجهد لجمع الطوائف اليسارية المختلفة حول بروتوكول تعاون وثيق و خارطة طريق تمكن من التحضير لانتخابات 2024القادمة أو أية انتخابات سابقة لأوانها لاسترجاع قوة اليسار الثابتة