دفءُ نار

انتبهوا إلى المسلّمات (الجزء الثاني)

نشرت

في

تحدّث الجزء الأول من هذه الورقة في الأسبوع الماضي عن بعض النماذج من التضمينات العنصرية أو التحقيرية غير الواعية إزاء المهن والمراكز الاجتماعية في محاولة للوقوف على أهمية انتباه المتحدّثين للآثار المُدمّرة التي قد تتسبّب فيها كلمة طائشة أو مصطلح مرتدّ أو كذلك مقولات يومية مكرورة تجُرّ وراءها قيما متخلّفة وأفكارا خِلناها قُبرت إلى الأبد.

<strong>منصف الخميري<strong>

ونخصص هذا الجزء الثاني والأخير لمجاليْن آخرين يتصبّب الخطاب اليومي حولهما إذلالا وتصغيرا أسطوريان، هما نظرتنا تجاه المرأة وتمثّلاتنا حول الجهات والمناطق.

في تكريس دونيّة المرأة وتنميط صورتها والحطّ من شأنها

“المرا كيف النّحلة، خلّيها ترْعى وعينك عليها”، “فلان مراوي في سلوكو، يهزّ الحديث ويحب التقلقيل”… الخطاب اليومي للتونسيين يعجّ بمثل هذه القيم المبتذلة المُكرّسة لدونية المرأة وهو لا يختلف في ذلك عن إرث إخوتنا الشرقيين الذين يُبدعون هم أيضا في إنتاج خطاب شفوي جائر يتغذّى من العقل الجمعي الذكوري في المجتمع مثل “بنت في الدار تعمل العار” أو “شاوروهن وخالفوا شورهن”… في تماه تاريخي مع حكايات ألف ليلة وليلة التي أفتت بأن المرأة “كائن خائن لا يؤتمن”. ويُصبح الوجع أكبر عندما تستبطن المرأة هذه الأفكار “الفحوليّة” لتصبح هي نفسها من الأبواق المروّجة لها.

ومن المفارقات العجيبة التي نلمسها في شخصية التونسي أن الأنثى تكون عطاءً وودّا وطيبةً وحنانًا وعطفًا بل وجنّة من الجوهر الشفّاف عندما تكون أُمًّا ولكنها تتحوّل فجأة إلى “زرّيعة إبليس” و  “قنبلة موقوتة” و “الربيع ربّع واللبن قراص والّي عندو بنيّة يعطيها لترّاس”. والتونسي يعتقد أيضا ببلاهة شديدة أن جمال النساء هو ليس أمرا طبيعيا حَبَا الله به نساء الكون وإنّما إمّا تبرّجا منافيا للأخلاق والدّين وجب ردعه أو ثمرة من ثمار الجنّة التي نضجت قبل أوانها يكفي أن تكون ذكرا للاستمتاع بها. (لاحظوا ردّة فعل الذكور في شوارعنا وأزقتنا عندما لا تستجيب فتاة مارّة لغمزاتهم المتحرّشة).

التونسية هي الأخرى  لا تكتمل فرحتها إلا بإنجابها لابن ذكر … “فلانة ما رزقهاش ربي بوليّد يملى عليها الدار”… والحال أن البنات هُنّ من يؤثثن البيوت ويُعمّرنها وينجحن ويتألّقن ويطهون ويعتنين ويرتبن ويرافقن أمهاتهن وآبائهن في سنّ متقدّمة الخ…

الطريف حقيقة هنا هو أولئك الذكور الذين يقولون سرّا أو جهرا “ماذابيّا نجيب وليّد نخلّد بيه إسمي” ! في إشارة ضمنية لاواعية إلى كونه أضحى اسما بارزا في عالم تخصيب اليوارانيوم أو البحوث الجارية كونيا لاكتشاف وتطوير اللقاحات ضد الكوفيد … فيُصبح من حق الانسانية عليه أن يتم تخليد اسمه لأن “الأثر” لا يتمثّلُه ثقافيا أو حضاريا أو علميا بل تناسليا وبيولوجيا فقط … مثل ذكور الدواب وفحول الخيول تماما. 

____في التمييز الجهوي والمناطقي والتباهي المرضي بسيمياء البذخ والرّفاه

يُعرف التونسي في هذا السياق بتذاكيه وفهلوته من أجل إعلان انتمائه إلى مناطق بعينها يتصورها مُساهِمة أكثر من غيرها  في إعلاء شأنه، وفي المقابل إخماد عناوين جغرافية أخرى يتوهّم أنها تبخسه أكثر مما ترفعُه وتُشرّفه. فتراه على سبيل المثال يحدثك عن جزء من عائلته يقطن بالضاحية الشمالية ويجد في ذات الوقت حرجا كبيرا في إثارة موضوع زيارة أخته في بعض الأحياء الشعبية أو بعض الجهات الريفية النائية.

وعند الحديث عن المأكولات يُفرنِسُ الأكلات العادية ويضيف لها زوائد و منكّهات اعتقادا منه أن الوجبة المقدّمة بمسمّيات فاخرة تزيده جاها، فبدلا من الحديث عن صحن مقرونة  يقول “والله (ولا أعرف هنا بالذات لِمَ يتمّ اللجوء إلى القَسَم) خرجنا آنا والمدام و الاولاد ضربنالها مقرونة بالـكلوفيس والا مقرونة كاربونارا  والا أي حاجة بالكورجات (المهم ما يقولش قرع بوطزّينة)”.

وهذا التّفاخر بما هو اعتيادي في المجتمعات المتقدمة لكن يعتبرونه في بلادنا عنوانا لمواكبة الحداثة والتقليعات المُبتكرة في العالم… يذكرني بتلك الحكاية الطريفة التي تقول :

إن شابا ريفيّا لبّى دعوة ابن عمّه لزيارته بالعاصمة، وعلى سبيل الاحتفاء به، دعاه مساءً إلى تناول بيتزا بالضاحية الشمالية ظنّا منهُ أن هذه الأكلة القادمة مباشرة من روما ألذّ وأفخم ما يمكن أن يقدّمه لضيفه المبجّل…كانت أول مرة في حياة هذا الشاب الوافد على العاصمة تناول البيتزا التي طالما سمع عنها. عندما وضعها النادل أمامه أمعن النظر فيها، تحسّس حواشيها، بدأ يُعدّد داخليا مختلف المكوّنات التي زيّنت سطحها… كان مدهوشا جدا يكاد لا يصدق ما يرى أمامه… تفطن ابن عمّه إلى ذلك فبادره بالسؤال عمّا يدهشه… تنهّد عميقا وأجابه قائلا “المشكل أني مانيش مصدّق الي طول عمري ناكل في البيتزا وموش داري” … في إشارة إلى “كسرة الشحم” وهي نوع من الخبز الشمالي الغربي، يتم تحضيره بصورة آنيّة في طبقتين ويُحشى بخليط لذيذ من رداء الشّحم المُجفّف يُمزجُ بمجموعة من البهارات والتوابل… و يؤكل ساخنا شهيّا مباشرة بعد إنزاله من التنّور الطيني.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version