يقول روسّو في القرن 18 “العقل والحِكمة يأتيان على مهل، أمّا الأفكار المُسبقة فتهرع حُشودا”.
هي محاولة لرصد بعض الأفكار المسبقة والطبائع الدّفينة التي تُعشّش في خطابنا اليومي تنبثق هكذا بشكل تلقائي دون الانتباه إلى وقْعها في نفوس الآخرين.
ولا نقصد بطبيعة الحال ظاهرة السبّ المباشر من قبيل “يالّي بيك يالّي عليك” على غرار ما يحدث في مجالسنا التمثيليّة الموقّرة بل المشاعر العنصرية أو الجهوية أو التحقيرية أو مشاعر التعالي والتباهي والكراهية غير الواعية أصلا والمتخفّية في تفاصيل الكلام نتناقلها جيلا وراء جيل دون التفطّن الى أن الانسان مسؤول بشكل كامل على ما يقول نعم، ولكن على ما يُفهم من كلامه أيضا ! وفي ذلك تأكيد اتصالي حديث يُفنّد المقولة الشهيرة التي يرتاح لها كثيرا العامّة وصغار المسؤولين وهي :
“أنا مسؤول فقط عمّا أقول ولكن لستُ مسؤولا مُطلقا عمّا تفهمه ممّا أقوله لك”.
وفيما يلي رصد لبعض المشاعر أو القيم البغيضة التي تسكن تفاصيل كلامنا وأيّامنا علّنا نُصبح يقظين أكثر وممتنعين عن إيذاء الآخرين والإساءة إليهم من حيث لا ندري :
في ترذيل المهن وتحقيرها :
كانت تتحدث إلى صديقتها مُعربة عن ابتهاجها بنجاح ابن أخيها في مناظرة الإقامة في الطب قائلة “تبارك الله عليهم أولادو لكلهم ناجحين وآخر واحد فيهم استاذ …شادد بيها يدّو قبل ما يولي يقرّي في الجامعة” !.
المؤشر الثاني الذي اخترته في هذا المجال أن التونسي بصفة عامة عندما يتحدث عن عائلته وأقربائه لا يُبرز إلا مناطق الضوء وسلسلة الانتصارات والغزوات المسجّلة هنا وهناك، كأن يقول لك “التقينا نهاية الأسبوع في دار خويا المهندس متاع (تونيسار) وجات أختي الطبيبة هي وصغارها وتعدّى ويكاند هبال”… مُغفلا بصفة متعمّدة تغييبهم المتعمّد لأخيهم الذي يعمل نجّارا أو نادلا أو لا يعمل أصلا.
هذان المؤشّران (وهناك مؤشرات أخرى عديدة ليست هذه الورقة البرقية مجالا لتفصيلها) يدلاّن على أن التونسي مازال سجين مُربّعات التراتبية التقليدية التي تصنف المهن إلى كوميْن كبيرين فجّين : الطبيب والمهندس من جهة وكل المهن الأخرى قاطبة في كوم ثان. أولا لأن عامة الناس لا تعرف بالقدر الكافي المهن الجديدة النبيلة هي الأخرى وذات القيمة الاقتصادية المضافة التي تدرّ على أصحابها جرايات وأرباحا مُجزية جدا مثل ميكاترونيك السيارات وسوّاق البواخر التجارية العملاقة والمختصين في تنظيم التظاهرات الثقافية الكبرى والباحثين في علوم البراكين والمصممين الصناعيين الخ ….
وثانيا لأن قيمة المهن والأشغال تُقاس في المجتمعات المتطورة اليوم بمدى قدرتها على إنتاج الفرح والتوازن الشخصي وبهجة الحياة في نفوس معتنقيها وليس بمدى انبهار الجيران بعدد خيول سيارات من يمارسها… إعترضني شخصيّا في مسيرتي المهنية شبّان عديدون يتحمّسون لدراسة علم النفس أو شتى أنواع الفنون رغم انسداد أفق التشغيل أمام هذه الاختصاصات لكنّهم يُصرّون على متابعة دراساتهم الجامعية فيها من أجل إرضاء دافعية خاصة واختلاجات داخلية أقوى من إلحاح الهاجس الاجتماعي المُربك “خمّم في آش باش تخدم بَعْد“.
الطريف أيضا في هذا المجال أن التونسي يُبدع في مجانبة أسماء المهن المسترابة مثل الحديث عن “فلان يهز في السلعة ويجيب في السلعة” كي لا يقول “فلان يشتغل في حقل التهريب” أو ” فلان لاهي بالعلاقات العامة في مؤسسة كبيرة” أو كذلك “مختصون ومختصات يعملون في مراكز النحافة والمعالجة بالمياه” دون أي تحديد لطبيعة هذه الاختصاصات.
في عنصرية التونسي وازدرائه للأديان الأخرى :
لا يتردّد أغلب التونسيين بصورة عامة عندما يندفعون أثناء الحديث في القول “كنّا مجموعة مالطلبة أصحاب علخّر كيما الأخوة في الجامعة ومعانا فرنسيس وعرب و واحد يهودي حاشاك” أو “والله موش ساهل الكراء للوُصفان مشاكلهم ياسر” … أو كذلك كميات الدّعاء المجلجلة بالهلاك والفناء على معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام في خطب أئمة بعض المساجد على طول البلاد العربية وعرضها أو عدم الإقرار بأن العربي يمكن أن يكون صهيونيا أكثر من اليهودي الصهيوني وأن اليهودي يمكن أن يكون وطنيا ومعاديا للاحتلال الصهيوني أكثر من آلاف الفلسطينيين المطبّعين. دون إغفال ثراء ما تزخر به السجلات اللغوية الجارية من إدانة للمُختلفين وتجريح لغير الممتثلين للسائد وتأثيم لعلامات البهاء التي تُزيّن وجوه النساء… كأننا لم ندفع دم قلوبنا في كتابة دستور يشرّع للحريات الفردية ويذود عن حرية الضمير ويمنع التكفير لا فقط في علاقة بالمعتقدات الدينية بل بفلسفة الحياة بصورة عامة.