نرسو اليوم بمرفإ الذكريات ونفتح نافذة الموسيقى بباجة…كانوا في الماضي لا يهتمون ولا يكترثون ولا تعنيهم الموسيقى الوترية اطلاقا..عشقهم الوحيد الطبلة والزكرة وأغاني التراث مما خلفه الأسلاف والاجداد من ايقاعات وانغام من الموروث الشعبي …
كان نجمهم انذاك المرحوم اسماعيل الحطاب..كذلك الشيخ بودية…وخاصة برنامج ” قافلة تسير” الذي يعده الكبير مختار حشيشة…فيستمتعون من كوة المذياع الذي يسمونه اهالي باجة ( التيساف) باحلى الاغاني واروع القصائد الشعرية ذات الطابع الشعبي ..في المقابل توجد مجموعة اخرى من الاهالي الذين يعشقون صوت ام كلثوم..ومحمد عبد الوهاب..و سيد درويش..واسمهان … ومن تونس صوت صليحة..والشيخ العفريت..والسيدة نعمة وعلية وسلاف وزهيرة ابنتهم والشيخ خميس الحسناوي..مؤسس فرقة السلامية…
ومع مطلع الستينات وبعد ان تم بعث اللجنة الثقافية الجهوية واللجنة الثقافية المحلية التي يترأسها المربي ولاعب الأولمبي الباحي عثمان الشواشي…ولدت جمعية النغم للموسيقى بقيادة الفنان منور زروق الآتي من العاصمة ليدرس الموسيقى بالمعاهد.. سحره جمال المنطقة وطيبة اهلها وكرمهم فجمع من حوله مجموعة من الشباب والتلاميذ، وبعد غربلة للأصوات وعشاق العزف تكونت “النغم” من طاقات موهوبة … فيها من سجل اسمه بماء الذهب في عالم الأغاني والألحان والعزف والدخول الى عالم الاحتراف كالراحلة منيرة حمدي، وعدنان الشواشي، وعبد الحكيم الطبوبي … ومنهم من استقر بباجة كاحمد الشلواطي، وناجي بن مسعود، عبد الله الزواغي، سالم حلاج، سعيد الدريدي، رضا بوكاري، الهاشمي الفرحاني، سمير السعيدي، سعيد الدريدي، محمد فوزي ـ عاشق فريد الاطرش ـ لطفي ومحسن الحسناوي … والفنانة زهرة الدريدي التي شاركت و تألقت بمهرجان ام كلثوم.ذات سنة إلى جانب شقيقة ميادة حناوي، فاتن حناوي…لكن تشاء الأقدار ان تنتهي رحلتها في هذه الدنيا بانفجار قارورة الغاز بمنزلها…رحمها الله
هؤلاء الذين آمنوا بان الفن هو تماما كالنور المرسل ضياءه في قلوب الناس وهو هبة من الله ..وكالنسيم العليل الذي نشره ” بَيْ” منور في جسد ابنائه الفنانين…وللتدليل على ذلك شهادة الفنان عدنان الشواشي الذي قال عنه: “منوّر زرّوق رحمه الله أو “بابا منوّر” كما كنّا نناديه نحن تلاميذه الصّغار و الكبار كان إنسانا رهيف الحسّ خفيف الظلّ و بسّاما رقيقا ترتاح لدفء و لطف و ظرافة كلامه النّفوس و تطرب الأسماع و يروق و يحلو الجلوس…. “بابا منوّر” أوّل من علّمني، و أنا طفل مغرم إلى حدّ العشق بالإنصات إلى الموسيقى و الغناء ، علّمني العزف على آلة العود ولقّنني ، كما تُلقَّن العصافير الشّادية المبتدئة، شتّى الأغاني الطّربية و الأدوار و الموشّحات و القصائد و المعزوفات الشّرقية ، و ذلك على امتداد سنوات متتالية من التّلقّي والدُّربة و السّمع و الطّاعة لسيّدي و معلّمي و حبيبي “بابا منوّر” الغالي…..
علّمني كذلك ، بالتّوازي ، العزف على آلة الكمنجة … كان دائما يقول لي ” اعزف كما تغنّي بالضّبط ، بهدوء ووضوح وثبات… إيّاك والزّخرفة الزّائدة .. كلّ ما أطلبه منك هو أن تطربني دون تكلّف ولا زيادة و لا نقصان” . و بعد أن اشتد عودي و أصبحت قادرا على إرضائه و إقناعه قبلني كفرْد قارّ في الفرقة الموسيقية التّابعة للّجنة الثّقافية التي كان والدي عثمان الشوّاشي ، رحمه الله و طيّب ثراه ـ رئيسها آنذاك ، و الرّائع المثقّف اللّطيف الملتزم “حبيب الحدّاد” رحمه الله ،كاتبها العامّ…ثنائي من ذهب ، قمّة في العطاء و التّطوّع و التّسيير و سموّ الأخلاق و حسن الأدب…
و يواصل عدنان:
“كان “بابا منوّر” ينوّع لي المهامّ ضمن الفرقة … فتارة يشرّكني كفرد من المجموعة الصّوتية و تارة كعازف إمّا على آلة العود أو الكمنجة حتّى حان الوقت المناسب لأصعد على الرّكح كمغنّ… كان ذلك في أواخر الستّينات أثناء منوّعة إذاعية مباشرة من تنشيط المذيع الرّائد الرّائع المتميّز ” بوراوي بن عبد العزيز ” ، رحمه الله ، حيث غنّيت لأوّل مرّة في المباشر “مشغول عليك مشغول ” للفنّان و المطرب الكبير “كارم محمود ” رحمه الله… لن أنسى فضائلك عليّ و نصائحك و مساندتك لي.. لن أنسى كلّ تلك السّنوات التي قضّيتها معك أتعلّم منك أسس و أسرار فنون الغناء و العزف …
و يختم:
حبيبي وسيّدي و مُسندي و قرّة عيني “بابا منوّر” الغالي…. كلّ جملة أعزفها أو ألحّنها أو أغنّيها هي ثمرة من ثمار علمك الفيّاض و قطرة من قطرات جدول فنّك الهرهار المنعش الصّافي الأصيل… الله يرحمك و يطيّب ثراك يا عزيزي “بابا منوّر ” يا ألطف و أرقّ و أعزّ النّاس…
تلميذك الوفيّ المحبّ الممتنّ: عدنان
هذه شهادة الفنان الأصيل والمجدد عدنان الشواشي… حرير الكلام جاء ايضا من المرحوم الطاهر غرسة في حوار اجريته معه ذات مساء وعن سؤالي له عن اذا ما كان يعرف ( بي منور) …قال: “منور زروق فلتة من فلتات الزمن لو انضمّ للرشيدية لاكتمل نصاب الموشحات و المالوف التونسي ..
رحلة منور زروق لم تكتمل بصقل المواهب وتعليمها المالوف والموشحات والانغام والمقامات والسولفيج وكل ادوات التعليم بل تجاوزت حدود المحلي إلى المهرجانات والتظاهرات الوطنية التونسية والعربية حيث شارك عديد المرات بمهرجان تستور الدولي للمالوف وابهر كل عشاق هذا الفن من الجزائر وليبيا وموريتانيا..والمغرب… و تحصل خلالها على عديد الجوائز و اوسمة الاعجاب والتهليل كما شارك في مهرجان قرطاج ذات صيف…
آه ..آه..” بي منور” كم اشتاق الى ابتسامتك وعفويتك، و إلى (طرح ديمينو) بمقهى تونس بقلب المدينة … وكم اشتاق الى موشحاتك و تقاسيم عزفك المتفرد..التي سكنت قلوب عشاقك من اهالي عاصمة الشمال ومدينة اللقالق باجة …