جور نار

بعض آخر من قصص الطفولة المدرسية

نشرت

في

أولا : شعشوع والملف المهاري

لم يذهب شعشوع بعيدا في تعلّمه، فقد قذفته المدرسة خارج أسوارها (بالرغم من أنّ مدرستنا لم تكن مسيّجة آنذاك) منذ سنوات الابتدائي الأولى لمحدودية إمكاناته الذهنية كما يقول أغلب المدرّسين، وهي لعمري تهمة باطلة لأن في ذلك إغفالا لأهمية العوامل الأخرى المسؤولة عن فشل صاحبنا، ثم هو عندما سيكبر، ستلاحظون كم كان شعشوع مؤهلا ليكون مبدعا ومتألقا في مجالات عديدة لم تقدر مؤسسة المدرسة على التقاطها وصهره ضمن مسالك تنسجم مع خصوصياته وفرادة تشكيله النفسي والشخصي.

<strong>منصف الخميري<strong>

 أذكر أنه كان حريصا جدا على تدبّر مقعد في قاعة الدرس ولكن لأسباب أضحت تونسية غائمة في ذهني، كان في كل مرة يتلقّفه سي الخزري قائلا “يا رابح برّة لتالي توّة ندبّرلك بلاصة” قبل أن تمتلئ كل المقاعد ويوصد الباب في وجهه… تكرّر المشهد مرات عديدة إلى أن يئس شعشوع وهجر المدرسة والدراسة وكره المدرّسين والدّارسين. كان بارعا جدا في صنع الفِخاخ بنفسه وكان أقدر من الجميع على التمييز بين الطيور الواقعة بين فكّي “مندافه” (وهو في الأصل آلةٌ يُطرق بها القطنُ ليرِقّ ويزول تلبّده كما تقول القواميس) فكان يُفرّق بين العُقاب والصقر والسمّان والغرنوق والتّرد والقبّرة والحجل وبين الحمام واليمام…

وكان شعشوع بطلا حقيقيا في ما يسمى اليوم بالغوص الحر لا يعادل طول نفسه تحت الماء أحد من جيله دون استعمال أي معدّات إضافية للتنفس… وكان سبّاقا بمهارات أولمبية لأنه كان يُطارد الثعالب والذئاب على مسافات خيالية، إذ تمكّن ذات مرة من اللّحاق بزيردة أخرجها عنوة من مخبئها بعد إغراقها بكميات كبيرة من الدّخان على مشارف منطقة الجريف أي على بعد 30 كلم تقريبا… إضافة إلى حذقه لفنون صيد السمك في وادي ملاق والحرث والزراعة والحصاد والدّريسة وجني الزيتون… وكان لشعشوع أيضا مهارات تجارية غير عادية لأنه كان يقتلع بيُسرٍ مصروفه اليومي من بيع الببوش المغلق الذي يعرف مكامنه تحت الأرض وبيع حزم الهليون البرّي asperges  وحبوب العنّاب الصغيرة (النبق)…

تصوّروا طفلا بهذا الملمح في مجتمعات أخرى تؤمن أكثر منا بأهمية المهارات الحافّة غير المدرسية … لكان شعشوع طفلا مُشعّا له مكانته الثابتة التي تشبه تدفّق الحياة في عروقه وقدراته الفائقة على ترويض الطبيعة المتوحّشة، ولكان سبّاحا عالميا أو سبّاقا متميزا أو تاجرا متمرسا أو فلاحا رياديا أو أخصائيا مرموقا في مجالات دراسة حياة الطيور والحيوانات البرية وأشكال تكاثرها. ويبقى السؤال متوهّجا : كم من شعشوع اليوم عند أبواب مدارسنا لا تقدر منظومتنا الغبيّة والحزينة على تثمين مواهبه وصقل مهاراته وبراعاته المكبوتة ؟

ثانيا : الأرملة المرضع

النصوص الأدبية التي رضعنا حليبها ونحن صغار تدور أغلبها (أو هذا على الأقل ما بقي عالقا بذهني) حول معاني البؤس والفقر والخصاصة وضنك الحياة. فقد كنا نطرب لسماع “مات الذي كان يحميها ويُسعدها…فالدهر من بعده بالفقر أشقاها” ونتابع بشغف قصة الأم التي أنهكها الفقر فكانت تُوهِم أبناءها الذين صرعهم الجوع أنها تطبخ لهم وجبة العشاء في حين أنها كانت تطبخ الحصى والحجارة حتى يخلدوا للنوم دون أكل،  وكنا نزهو بقصة القط الطمّاع والعجوز الشريرة وصورة الطفل الباكي التي كانت تُعلَّق في أغلب الديار التونسية، والصياد المنكود الحظ ومالك الحزين وكل تلك الترسانة من الجُمل التي أثّثت كتاب “اِقرأ” في السنة أولى ابتدائي من قبيل “أكل السبع نعجتي” و “لسعت عقربٌ حليمةَ فجعلت تبكي”…و “طرق مسكين بابنا فأطعمتُهُ تمرا ولبنا” و “نشرب من أحواض ماء حولها ضفادع تنقنق فضحك صالح من نقيقها” و “الضفدعة التي أخذت تشرب كما تشرب الأبقار حتى ورِم بطنها ورما شديدا فماتت” و “عصف الرياح وزمجرة الرّعود وشدّة الزمهرير …”

اعترضتنا لا محالة بعض النصوص الأخرى التي تغنّت بقيم العمل والإخلاص وحب الوالدين وجمالية فصول السنة، لكنها لا ترتقي في كمّها ولا في عمقها إلى مستوى كثافة البؤس الذي كان مخيّما على سطوح مدارسنا.

ثالثا : من هو “ميتول” ؟ (وهو اسم المدرسة التي قاومت إصرار شعشوع على التمدرس).

درست بمدرسة ابتدائية عُرفت بمدرسة ميتول MUTHUL لكونها تأسّست على أنقاض محطة سكة حديدية كان يستعملها المستعمر الفرنسي لنقل مادة الرصاص المستخرج من مناجم الطويرف بولاية الكاف، ولكن لا أحد حدّثنا ونحن صغار عن أسباب وجود هذا الخط الحديدي ولا عن دواعي التخلي عنه مباشرة بعد الاستقلال. كما لا أذكر أن معلما واحدا تساءل من هو ميتول الذي أُطلق اسمه على هذه المحطة ثم على المدرسة. (علمت بعد نصف قرن وحسب ما تذكره المجلة التونسية التي نشرها معهد قرطاج سنة 1930 أن ميتول هي ساحة المعركة التي شهدت انتصار الجيوش الرومانية بعد سنتين من الحرب بقيادةMétellus  Q.Caeeilius على الجيش الذي كان يقوده يوغرطة ملك النوميديين سنة 111 قبل الميلاد ).

والغريب بل والمُضحك أن السلطات التربوية الباسلة قررت منذ بعض السنوات التخلي عن هذه التسمية الرومانية واستبدالها بـ “مدرسة السعادة” وفاءً منها لعقلية تونسية فذّة تعتقد أنه يكفي أن تُطلق صفة الخصوبة على قرية ما ليعمّ الرفاه فيها وأن تُطلق اسم الازدهار على حيّ شعبي لتشعّ السعادة وينتشر الفرح لدى جميع ساكنيه …

ومن المفارقات العجيبة أيضا أن مدرستنا تقع على بُعد بعض الكيلومترات من آثار شمتو التي كان يُستخرج من مقاطعها أثمن أنواع الرّخام في ظل الإمبراطورية الرومانية marmor numidicum   الذي شُيّد منه ذلك العمود الروماني الذي أقيم في الساحة العامة (Forum) في عهد الامبراطور يوليوس قيصر… ولكن لا أحد حدّثنا عنها أو حفّزنا على زيارتها لأنهم كانوا يتصوّرون أن “حمار جحا” و “أشعب في بلاد الواق واق” ذات فوائد بيداغوجية وتربوية أكبر. وحصل نفس الشيء مع موقع بلاريجيا “مدينة الفسيفساء والطوابق البنائية والأخ التوأم لموقع شمتو جغرافيّا وحضاريا” الذي لم يحظ بصفحة أو دقيقة واحدة في كامل دراستنا الابتدائية.

ويمكن أن نستنتج بشيء من المرارة وفي علاقة بكل ما تقدّم من وقائع عشتُها دون كثير تجميل روائي، أن أي إصلاح جدّي لمدرستنا التونسية لا بدّ أن يمرّ عبر :

  • ضرورة أن يرافق النتائج المدرسية لكل تلميذ ملفّ مهاري يكون أداة لرصد المهارات غير التقليدية للتلاميذ، ونوعا من الجواز التربوي الذي يتمّ اعتماده في الدخول إلى الجامعات والالتحاق خاصة ببعض المسالك التي تستدعي ملمحا خصوصيا لا تُترجمه بالضرورة النتائج الكمية.
  • إكساب المدرسة ومضامين الدراسة فيها كل ما يجعلها جذّابة ومُحيلة على الحياة والسعادة والقيم الانسانية الإيجابية لا على الموت والبؤس وقيم الانغلاق والتحجّر.
  • جعل التلاميذ في كل جهة يكتشفون خصوصيات محيطهم المباشر حضاريا وبيئيا ومناخيا…تعزيزا لشعورهم بالانتماء وتفعيلا لفكرة بيداغوجية أثبتت جدواها مفادها أن “المفاهيم النظرية الكبرى” تُبنى في أذهان الطفولة من خلال مشاريع ميدانية بسيطة.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version