المفروض في مذيعين ماسكين ميكروفونات محطات ذات نسب سماع عالية، أن يكونوا أثقف و أعقل و لو قليلا من متوسط مستمعيهم … و أن ينشروا الأمل حين يعمّ يأس، و أن يكونوا أوفياء إن لم أقل للبلد الذي يقتاتون منه، على الأقل للحقيقة التي هي جوهر الصحافة على اعتبار أنهم صحفيون في وسيلة صحفية …
نعرف أن الكرامة الوطنية صارت موضة قديمة لدى كثير من نخبنا و زعاريرنا، و خاصة منذ السطو على ثورة خلناها للحرية و الكرامة … و نعرف أن الخزائن جُرّفت و جُفّفت بالكامل منذ ذلك التاريخ مما أدى بنا إلى التحوّل لشحّاذين محترفين و عواهر على أرصفة العالم … و نعرف أيضا كمّ الجهالة الجهلاء التي غمرت إذاعاتنا و تلفزاتنا من زمن، و منذ أن غزاها أصحاب الشهائد المضروبة و مفلسو الفنون و السياسة و الرياضة و أصبحوا زملاءنا بالسيف و النطع … لا، هم أصبحوا معلّمينا و مدرّسي الشعب في وقت هُمّش فيه المعلّمون …
و لكن لكل صبر حدودا، و لكل بشر مسالم نقطة ضعف يثور عند استفزازها و لا يطيق سكوتا … و قد استفزّني شخصيا أحد نجوم إذاعة موزاييك في برنامجه الصباحي … كانت الحكاية أكبر منه حين ورد تعليق على خطإ اتصالي لأحد الوزراء تحدى التونسيين بأن من لا يعجبه الوضع فليغادر البلاد (بالأمارة) … و تلك قصة قد نعود إليها و لكن مجالنا الآن ليس هذا … قلت حينما طال الحديث عن الزلقات الاتصالية في البلدان حديثة العهد بالديمقراطية مثل تونس و بعدها الجزائر، قاطع مذيعنا ضيفه (أو كرونيكوره) قائلا: أرجوك لا أقبل المسّ بأختي الكبرى …
بهت جليسه كما بهتّ من جهتي، فما دخل أختك و عائلتك في موضوع وزراء و رؤساء؟ … فأجاب متأثرا عن التساؤل بأن أخته و “أختنا الكبرى” هي الجزائر جارتنا … أي نفس العبارة الركيكة الجبانة التي يرددها ساسة المساسية و الانبطاح منذ 2011 دون خجل أو شعور بالذنب … نعم … الذنب تجاه هذا الشعب المرضرض الذي تنهال عليه الشتائم و الأخبار السود و القرارات الجائرة منذ عرف هذه الفئة من الماسكين برقابه سياسيا و اقتصاديا و إعلاميا في سنواتنا العجاف …
ما يتجاهله، أو الأصحّ ما يجهله طرّا هذا المذيع الهُمام، أننا بمنطق التاريخ طولا و عرضا، لم نكن أخا أصغر (أو أختا صغرى) لأي كان و خاصة من أجوارنا … لا أدري إن درس هذا السيد تاريخ الدولة القرطاجية التونسية التي سادت محيطها طوال 500 سنة على الأقلّ … و حتى بعد الهزيمة الأخيرة ضد روما و تقسيم شمال إفريقيا، كان لبلادنا المستعمرة نصيب الأسد من جغرافيا المنطقة … و كان لـ “أفريكا” الرومانية امتداد شاسع على شرق حدودها الحالية و غربها … و قد نحا الجغرافيون الإيطاليون نحو أسلافهم عند ضبط خرائط العالم منذ خمسة قرون، فأطلقوا اسم بلدنا العظيم على كل القارة المقابلة لقارتهم …
و كذا فعل الرحالون و القادة العرب حين تعاملوا مع دول مهابة و امبراطوريات أنشأها هذا البلد على أيدي فاطمييه و أغالبته و حفصييه … و وسموا أرضنا على الدوام باسم “إفريقية” و هو عنواننا الرئيسي الذي احتفظنا به إلى حدود التقسيم العثماني الذي ربط كل مقاطعة استولى عليها باسم مدينتها الأكبر … و مع ذلك، فقد بقيت تونس إلى وقت قريب هي الأكبر و الأهمّ و الأكثر إشعاعا بين جيرانها … و استقبلت منهم ـ حتى أيام محنتها الفرنسية ـ جاليات بالآلاف لجأت إلى بلدنا و درست نخبها في جامعه الأعظم و تخرّج منهم قادة و رؤساء دول لا ينكرون ذلك …
أشقاؤنا لا ينكرون فضل تونس عليهم، و لا ينكرون كبرها و عمقها و مكانتها و حجمها التاريخي و الحضاري الذي لا يقاس بالمتر و لا بالكيلومتر و لا بعدد السكان … و إلاّ فستصبح أمريكا (300 مليون ساكن) هي الأخت الكبرى لليونان (10 ملايين نسمة) … و تصير كندا (مساحتها 9 مليون كم مربع) هي الشقيقة الكبرى لأنكلترا (130 ألف كم مربع، أي أصغر من تونس)، لا العكس … و تصبح أوطان النفط و الغاز و الثروات هي الشقيقة الأكبر للعالم كله و أمّه و أبوه و جدّه الرابع عشر، بمنطق مذيع الغفلة و ملقنيه من خطباء السياسة و منافقيها، و من فاقدي الكرامة و الشرف الوطني …