مررت بأنهج المدينة العتيقة فاستوقفتني لافتتة حديثة كُتب عليها ” هنا بيع الكلام”.. دفعني الفضول للتثبت و التوقف فلعلّ صاحبها يبيع الكلاب و لم يتفطن إلى الخطأ الذي تسرّب إلى اللافتة.
وجدت شيخا سبعينيا يجلس على كرسي في عتبة المحل ّفقلت بعد السلام : ” يا عمّ.. يبدو أن الخطاط غالطكم و لم تتفطنوا للخطأ… لقد كتب” بيع الكلام” بدل أن يكتب “بيع الكلاب” فضحك الرجل حتى كاد يسقط أرضا ـ كما يُقال في كتب الإنشاء ـ ثم قال بهدوء : أبدا لا يوجد أي خطأ… تفضل شاهد بنفسك… نحن هنا فعلا نبيع الكلام.. حسب طلب الحريف و مزاجه.. دخلت المحل برجلي اليمنى كما طلب مني _ تبرُّكا _ فوجدت قوارير بلّورية و علبا مخملية و صناديق صغيرة بألوان مختلفة مرصوفة على الرفوف غايةً في النظام و التنسيق…
قال: المحلُّ على ذمتك اطلب ما تريد و نحن نزِن لك و ” كل قدير و قدرو” … ثم فسر لي طبيعة العمل و التعامل… هنا لكل حكمة سعرها و لكل مجال في الحياة مكياله و لكل قائل قيمة مغايرة… طلبت تقليب البضاعة فقال البضاعة لا تُلمَس و لا تُقَلَّب و لا تُستبدل .. الكريدي ممنوع و الشراء بالحاضر … طلبت قولة بسيطة لا تكلفني الكثير.. فتح علبة بجانبه و أخرج منها لفافة بردي صغيرة و بعد أن نقدته ثمنها اشترط الاّ أفتحها الا في البيت حتى لا تطير بركتها… وافقته و قد ٱضمرت مخالفة أوامره…
ودعته و خرجت من الدكان و أنا أشعر كأن مغناطيسا خفيّا كان يجذبني إليه.. سرت في الطريق أفكر في ما حصل.. لقد اشتريت بضاعة لا أحتاجها.. و أتساءل عمّا جعلني أنساق وراء كلمات هذا العجوز.. إنّه بيّاع كلام ماهر… يُحسن عرض بضاعته و الإعلان عنها… فكرته طريفة جعلتني أقع فريسة لإغرائه، لكنني لا أعتقد أنه قادر على الاستمرار و المواصلة فمنافسوه كثرٌ و الكلمات ملقاة على قارعة الطريق…
في بلادنا لا شيء أكثر وفرة من الكلام.. ما حاجتي لشراء كلمات و نحن شعب يعيش بالكلام و للكلام … كل العرب صناعتهم الكلام و معجزتهم مصنوعة من كلمات. و العربية هي أكثر اللغات مفردات بما يفوق 12 مليون و 300 ألف كلمة ( ترد بعدها مباشرة اللغة الإنجليزية ب 600 ألف كلمة فقط) نحن لا ننتج إلا كلاما و لا نبيع إلا كلاما… و إن كان الكلام في العربية ثلاثة أنواع اسم و حرف و فعل… فإنا لا نعترف ” بالفعل ” أبدا .. و الكلام عندنا كلمات معسولة لإغواء الحبيبة و كذب و تلوين لإغراء الحريف و وشاية للفوز بمنصب و صراخ لجذب الانتباه و تسريب لتهديد المنافس و إشاعة لتدمير الخصم ….
في وسائل إعلامنا لا نسمع إلا كلمات من قبيل صرّح… قال… أخبر… حاور… تحدّث… ألقى خطابا… أما دشّن و أنجز و خطّط و أقام و فعّل و أنشأ و حقّق .. فأفعال مُهمَلة لا تدخل ضمن فاموسنا اليومي.. رؤساؤنا و نوّابنا و مسؤولونا يتبادلون الاتهامات و يسددون لبعضهم البعض كلمات من نار و لكمات من هراء و هواء يشتمون بعضهم و يخوّنون بعضهم و يُشهِّرون بعضهم… و الشعب ينتظر دون أمل فلا مشاريع أنجزت و لا تطوير تحقّق و لا بنية تحتية شُيِّدت و لا عاطلين شُغِّلوا و لا لقاحات توفّرت و لا استثمارات جُلِبت و لا… و لا…
و لكن عن أي شعب أتحدث إذا كان هذا الشعب هو نفسه من أتى بهم إلى السلطة و وضعهم على كراسيهم… فالراعي و الرّعية من نفس الفصيلة الشعب نفسه مهووس بالكلام، استمرأ بيع الكلام فصار يناضل بالكلام… يدافع عن حقه بالكلام، بالشتم، بالتشويه، بالديغاج ، بالهاشتاغ… بالقص و اللصق… يعبّر من وراء جهاز… ينزل في مظاهرات كلامية مزلزلة ، يلقي خطبا رنانة ثم يعود إلى البيت فرحا مسرورا.. فإن طالبته بالفعل عجز أو تحجج بألف سبب و سبب… إن طالبته بالبناء و العمل أطلق في وجهك محاضرة صماء عن ضرورة توفر العدالة و محاربة الفساد قبل مطالبته بالعمل… ثم يعود إلى مقهاه ليواصل تدخين السجائر المفقودة و الثرثرة مع الأصدقاء…
فماذا يساوي جهده أمام حجم الدمار الموجود… لا أحد يبدأ بنفسه… لا أحد يغير نفسه.. لا أحد يصلح من نفسه… كلنا نتكلم عن الآخر و أخطاء الآخر و لا أحد يبادر بالفعل، و نكتفي بالصراخ و الاحتجاج و الكلام… نحن الشعب الذي يصنع أبطالا كل سلاحهم و عتادهم كلمات، نخلق ظواهر صوتية و أبطالا من ورق… جنرالات و قادة من كلام، فهذا يقود جيش الطباشير و الآخر يحاضر عن الكورونا و ذاك يرفع في وجوهنا كل اللاءات الممكنة و يرسم في طريقنا كل الخطوط الحمراء… كلام… كلام… كلام… و ها أنني المسحور بالكلام… تركت الكلمات الملقاة على قارعة الطريق.. لأشتري كلمات مجهولة من بائع غريب…
توقفت وسط الطريق و فتحت ورقة البردي… و أغرقت في ضحك هستيري أثار فضول المارة… لقد كتب عليها بخط كوفي قيرواني ” اذا كان الكلام من فضة فإنّ السكوت من ذهب” !