لا شيء يقول بأن على الريفي أن يكون فظ الطباع غليظ القلب مسلوب الذوق … بالعكس، فإن عشرة أعشار تراثنا الغنائي الجميل، مولّدة من قرائح جبليّين و صحراويين حتى لو زعم بعضهم أنه سليل أسرة تركية ! و من ينظم تلك الأبيات و يجترح صور الريم التي تصطاد بنبال عينيها، و القلب الذي لا يعتّق بعد إصابته برمية من تينك العينين، و الربّ الذي يعطي الكمال و يزيل النكائد لمجيء محبوب … لا يمكن إلا أن يكون شاعرا رهيفا و ذوّاقة رفيع العماد …
و لا شيء يفرض على قاطني الأقاصي بأن يكونوا ساكنين في ديار الأمية والجهل و العصور الغابرة المغبّرة … لا شيء … فاحتياجهم للعلم أكثر حتى من احتياجات المدن حيث المرافق العامة تدير معظم الشؤون … بينما في السباسب و الغابات وأعناق الجبال، تواجه مصيرك مفردا عديد الأوقات، ووسط مجموعة صغيرة من قليلي الحيلة دائما … فيكون رد الفعل نابعا مما رسب في عقل الريفي من معتقدات و سلوكات.
لذلك يخطئ فادحا من يخلط عمدا بين الحمار و الحمّار، و بين البقرة و صاحبها، ويستخسر في قرانا مدرسة لائقة و برامج جادّة و معلمين راضين مرضيّين … نعم نعم (و لا علاقة لهذا باستفتاء يوليو) مدرّسون يعملون في ظروف كالمدينة وأفضل … يُفتح قوس: ريفنا الصبور ليس عقوبة لزوّاره و ضيوفه و معينيه، و ليس عقد إذعان يسلّط على رؤوس المستجدّين من موظفي وزارة التربية … و إذا كان الشظف قدر سكان بوادينا و بوادي العالم، فهو ليس قدر الذين جاؤوا للتخفيف من هذا الشظف … معلمو الأرياف هم عابرون بين الكلمات العابرة، فلنجعلْ عبورهم رحلة سلام و راحة و عطاء … و ليكن وقتهم مخصصا لخدمة العلم، لا للبحث عن سكن و وسيلة نقل و بيدون قاز أو قارورة غاز …
لوزارة التربية ديوان سكن لا أدري ماذا يفعل و لماذا لا يتولى إنشاء مساكن حكومية جنب كل مدرسة في الريف؟ و لماذا يجد معلّم الأرياف نفسه مدرّسا و مرشدا اجتماعيا و طبيب أطفال و عون تنظيف و مقاول دهن … فضلا عن وضعه الأساس و هو اللاجئ و المتشرّد و الباحث عن أبسط لوازمه بشق الأنفس؟
أكثر شيء يعوز ريفنا الفصيّ هو نور العلم حتى يقدر على مجاراة الطبيعة القاسية و الحفاظ عليها كذلك … يبقى سكان الجبل في جبلهم و لكن ما جدوى ذلك إن لم يتعلموا أن الغابة خير و بركة و ليست فقط خنزيرا مخيفا و شجرة للحطب … و يبقى أبناء الزراعة مزارعين و لكن لن ينمو ذلك ما لم يفهموا أن الأراضي المشتتة لا تعطي ثروة، و أن زمن المحراث العربي و حصيدة المنجل ولى زمنهما منذ مائتي عام … و يظل مربي البقرة الواحدة تحت خط الفقر و مهددا ببيعها، ما لم يجتمع مع جيرانه بشكل من الأشكال لتقاسم تكاليف العلف و البيطرة و تجميع الألبان و تحسين المنتجات و تثمينها …
في بلاد الشمال الأوروبي البعيد، عاش الفلاحون قرونا في ظروف أتعس مما عاشته فلاحتنا … و كيف لا يكون ذلك و رياح القطب المميتة تقتل كل شيء لثلاثة أرباع السنة … و هناك مناطق يظللها الليل نصف عام و النهار المسترسل النصف الأخر … فضلا عن حصار البحر الضاري الذي يكاد يبتلع بلدانا ضئيلة الحجم واطئة في معظمها (تحت مستوى سطح البحر) كهولندا و بلجيكا و الدانمارك … و مع ذلك …
نشأت على تلك الضفاف ضيعات يانعة شاسعة محمية و قياسية الإنتاج فوق هذا، كمّا و نوعا … إلى درجة أنها حققت لبلدانها الاكتفاء الغذائي و انطلقت نحو التصدير الذي يغطي لوفرته طلبات بلدان أكبر عشرات المرات … و الفضل يعود إلى حكومات آمنت بالفلاّح كصانع للثروة لا كزبون مفلس متلكئ للبنك الفلاحي، أو كمتسوّل للقصيبة و السداري أمام مكاتب اتحاد الفلاحين … هم لديهم تعاضديات ناجعة مزدهرة يديرها فلاحون واعون متعلمون، و في خدمتهم مهندسون و مختبرات و علماء تربة و تربية …
أما تعاضديتنا، فالجميع يعرف قصتها كيف أديرت و بماذا اشتغلت و إلام انتهت … إلى درجة أن آباءنا الطيّبين كانوا يسمونها “العاضوضية” (من العضّ) و فيهم من تأسّف صادقا على رحيل “المعمّر” الذي كان ـ رغم كل شيء ـ يعمّر تلك الأراضي … و لكن حين راح و حلت محلّه “الضيعات” (الإنتاجية التابعة لرزق البيلبك)، “ضاعت” الأرض و “تبيلك” العائشون فيها …