جور نار

تراجم الراجمات

عبد القادر المقري

نشرت

في

لكل زمن لغته و لكل مرحلة مصطلحاتها … مثلا، قبل سبعينات القرن الماضي و حظر الملك فيصل، كانت كلمة “بترول” مرتبطة أساسا بذلك الوقود الأزرق الذي يباع عند العطّارة مع الزيت و تشعل به أمهاتنا فانوس الإنارة و موقد الطبخ … البابور، بالضبط … و كانت إبرته من جملة الإبر التي لا يخلو منها بيت، بمقبضها المعدني الحادّ في شكل سكين صغير، و بقدرتها الفائقة على تسريح مصطلح آخر اندثر الآن تماما، و هو “الشملّيرة” … و مَن رؤوسهم شابت اليوم يذكرونها دون ريب … بينما لا أذكر كيف كنا نتدبّر صغارا مطّاط “قاذفة الكعابر” (تير بولات) و عدد العجلات و السيارات في كامل الجمهورية لا يساوي عددها اليوم في منطقة المروج وحدها … و لا حتى كيف كانت تمضي ساعات الحجز المدرسي ليوم الأحد (روتونو) عقابا على حيازتها أثناء الفصل … و حرمان التلميذ يومها من أن يلعب بـ “العفريت” الطائر إلى عنان السماء …

و إذا كانت فترة نويرة أتت إلينا بمعامل أفريل 72، فهي أيضا هي التي ملأت شوارعنا الهادئة سابقا، بجحافل من الشاحنات الصغيرة 404 باشيه التي قضت على صغار الفلاحين و فقــّرت و أقفرت كثيرا من قرانا … فضلا عن مؤشر الحوادث القاتلة الذي ارتفع بجنون … هذا الرقم (404) تغيّر معناه بعد زمن، ليصبح مرادفا للرقابة الصارمة على الأنترنت و يكون التصدي له بداية لإسقاط نظام ما كان أحد يتصور أنه سيسقط … لحظة ! ففي بداية “الأنترنت” هذا، كان جيلنا يظن الموضوع على علاقة بـ “الأنترناه” و هو المبيت في لغة معاهدنا القديمة … أما الحظر النفطي فها جائحة كورونا تستبدله بـ “الحظر الصحي” الذي ينطقه بعض مواطنيك هكذا بدل الحجر الصحي … السياسة حكمت على مصطلحات بافتكاك مكان مصطلحات، حتى في عناوين البرامج … بقينا عشرات السنين و في كل شهر كريم يهلّ علينا عادل يوسف بموعده الشهيّ و موسيقاه و عنوانه الجميل “تحية الغروب”… و لكن في لجّة مزايدة النظام مع تيارات الإسلام السياسي، تحوّل اسم البرنامج في التسعينات إلى “بوركت يا رمضان” و هو كان في السابق مجرد إنشاد تقدمه الحصة بصوت سيد النقشبندي …..

في الثمانينات تعرفنا على مصطلح جديد اسمه “تلفزيون ملون” و أعتقد أن الجيل الجديد سيضحك منا لو قلناه ثانية، تماما مثل عبارة “بالألوان الطبيعية” التي طويلا ما وشحت مقدمات أفلام السينما … فلا أحد اليوم يتفهّم مرحلة الأبيض و الأسود … و قد اختفت آلات التصوير الخالية من الألوان، بل اختفت مصوّرات التحميض الكيميائي، و ربما بدأت في الاختفاء آلات التصوير نفسها في عهد الهواتف الجوالة متعددة الوظائف … و لولا “ديدجيات” العلب الليلية، ما عرفت الأجيال الجديدة معنى “الأسطوانة المشروخة” الذي يطلق على ما يعيده ساستنا على أسماعنا من قوالب أكثرها إزعاجا في نظري “الإصلاحات الموجعة” و “لأجل تونس” … فالإسطوانات ـ غنائيّا ـ اندثرت تقريبا منذ نصف قرن … حلت محلها الكاسيت، ثم السي دي، ثم الأم بي 3 … و هنا وقفت معلوماتي تحت ضحك مواليد الألفينات …

بعد 2011، تعرفنا على مصطلحات مثل “الفانة” (متاع البترول و ربما الماء بتعبير التبيني) و قبلها “السبتة” (متاع الفوسفات) و هي ليست السبتة القديمة التي كانت تشغل خطة وزير للتربية المنزلية …  و هي أيضا غير “الحزام” السياسي الذي راج أيضا بعد 2011 … و هذا بالذات صار يعني حزمة من الشروط تقارب الابتزاز، و مفادها يا رئيس الحكومة أعطني مناصب خمسة وزراء و عشرة ولاة و 60 معتمدا و 15 ر م ع و مثلها في السلك الدبلوماسي … و مقابل ذلك ستصوّت كتلتي في البرلمان لمشاريعك حتى لو كانت خرابا على البلاد، و ستعطيك الثقة و لو لم تكن محل ثقة، و لن تقول كلمة عن ملفاتك و لو كان من ضمنها ملف في الآداب …

و أكثر الكلمات سرعة في التطوّر أو التحوّل مثل الجنّية هي كلمة “ثورة” … في مرحلتنا الطلابية كنا نتصوّر أنها مقتصرة على كل موجة فتيّة تقطع مع الفكر القديم و الذوق الموروث و خاصة مع الطبقات السائدة … الثورة كانت تعني ماركس و لينين و ماو و غيفارا و بريخت و أراغون و بيكاسو و يوسف شاهين و نجيب سرور و نجم و الشيخ و الطاهر الهمامي و أولاد المناجم و أشعار درويش و عود مارسيل … و لكن … و لكن سامح الله آيات الله … وجدوا في إيران ثورة شعبية تختمر لدى عمال الشركات البترولية و صغار تجار طهران و نقابات تودة … فانقضّوا عليها و على جماهيريتها و أبقوا على اسمها مع تغيير في لقبها، من ثورة شعبية إلى ثورة طائفية دينية … دون أن يثوّروا شيئا و لو كان من فكر السلف أو من الفقه، بالعكس فقد أوغلوا و أوغل تابعوهم في ظلمات الزمن و ثارات ألف سنة مضت  …  لذلك قال عنها هيكل ذات مرة: هذه أول ثورة رجعية في التاريخ …  

و مات الخميني و شاب شباب مريديه، و انفضّ من حول إيران من كانوا “هتّيفة” باسمها و باسم ثورتها العجيبة، و تحوّلت إلى عدوّ نووي لعباءات مجاورة لها تبحث عن تعلّة لاحتضان إسرائيل … و لكن مع ذلك توارث الرجعيون هذه العبارة دون اكتراث لنشاز المعنى، و وجدوها جاهزة للاستعمال مع موجات ربيع أوباما … بنفس السيناريو الذي شوهد في إيران منذ أربعين سنة، و في أوروبا الشرقية منذ ثلاثين، و في أي مكان من الأرض فيه منظومة لا توافق تماما قوى الأطلسي … و الانطلاق غالبا يكون من شرارة حق، و لكن تنفخ عليها و تؤججها رياح باطل … و في الأخير تقول لها أمطري الآن حيث شئت، فخراجك عائد إلى هذا الجيب …

و ربما لهذا السبب انقطعت هذه الكلمة من أفواه كثيرين جدا صدّقوا في البداية أن الأمر كذلك … و لم يبق لها في سوق الصرف سوى جحفل أغبياء، تقابلهم طغمة مستفيدين …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version