حدّثني والدي رحمه الله قال: “عندما كنّا صغارا كان أحد الأطفال الميسورين من أجوارنا بدينا ثقيلا بطيء الحركة و لكنّه الوحيد في الحومة الذي يملك كرة مطاط، كرة حقيقيّة عوض كرات الخيط المنزليّة الصّنع التي كنّا نلعب بها. فكنّا نضطرّ إلى جعله يشاركنا اللعب فنختار له حراسة المرمى ولكنّه كان يرفض و يطالبنا بأن يلعب في خطّة “قلب هجوم”، و متى رفضنا ذلك هدّدنا بأخذ كرته والانصراف .
تذكّرت هذه الحكاية مساء الجمعة بعد لقاء رئيس الدولة برئيسة الحكومة و ما بشّرنا به من عزمه على تغيير بعض فصول القانون الانتخابي خاصّة في علاقة بالتزكيات و ذلك بعد قرابة شهر من الإعلان عن نصّ القانون و بعد أن انطلق المسار الانتخابي و حددت هيئة الانتخابات روزنامة العمل و شرع المترشحون في الاستعداد على أساس الفصول القديمة من القانون الذي فصّله الرئيس على مقاس رغبته و أراد أن يجعله في صالح ” أبناء المشروع ” كما يسمّون أنفسهم، غير أنّ الواقع كذّب انتظاراته و ” خدمت الماكينة ” القديمة و عجز الجماعة عن جمع التزكيات اللازمة و انكشفت نقاط ضعف التصوّر الذي بني عليه القانون الانتخابي و لم يستطع ضمان الشفافية و المصداقية و منع شراء الذمم، و هو ما نبّه إليه عديد السياسيين و المراقبين و المنشغلين بالشأن العام منذ صدور القانون و لكنّ الأصوات المشيطنة كانت لهم بالمرصاد ….
لعلّ أغلبنا يذكر جيّدا أيام حكم الترويكا و ما ساد كتابة دستور 2014 من جدال و نقاشات و منها الجدل حول تجريم الاعتداء على المقدّسات و كيف تمكّن المجتمع المدني و المناضلون الحقوقيون حينها (و الذين نستغرب صمتهم و خفوت أصواتهم اليوم و هم يرون اتجاه البلاد نحو سلطة الفرد الواحد) من منع تضمين الدستور لتجريم الاعتداء على المقدّسات، بل نجحوا بالمقابل في فرض الفصل السّادس الذي ينصّ على حرّية الضمير
و ها نحن اليوم نكاد نعود إلى نفس المربّعات مع اختلاف المقدّس طبعا فأيّ نقد لقرارات الرئيس ومراسيمه و أي تساؤل نطرحه حول البطء في فتح بعض الملفّات أو التخبّط عند اتخاذ بعض القرارات والأخطاء التي “تتسرّب” إلى بعض المراسيم ، يصبح ضربا من المسّ بالـ”مقدّسات” لدى أنصاره و مسانديه فيقابلون قائله بموجة من الاستنكار و هستيريا من الاتهامات بالحنين إلى الماضي و “عشريّة الخراب” وبالانتماء الإيديولوجي إلى هذه الجهة أو تلك. و يصبح النّقد في منظورهم نوعا من الاعتداء على “الذّات القيسيّة” فهو بالنّسبة إليهم لا يخطئ و لا يتراجع و إنّما يستجيب لإرادة الشّعب و رغباته … هذا الشعب الهلامي الذي فقد كلّ تعريف سليم، شعبهم الذي لا يعرفه غيرهم و لا يوجد إلا في أذهانهم بما يستجيب لمقارباتهم و أطروحاتهم، فصاروا يوظفونه حسب أهوائهم … فإذا كان الرئيس سيغيّر بعض فصول القانون الانتخابي استجابة لهذا الشعب كما يقولون و يؤكّدون فلماذا لم يستجب لإرادة الشعب من المعطلين عن العمل المطالبين بتفعيل القانون عدد 38 لتشغيل من طالت بطالتهم؟ لماذا لم يستجب لإرادة الشعب من الأساتذة و المعلمين المعتصمين دفاعا عن حقهم في انتداب سليم؟ لماذا لم يستجب لإرادة الشعب الذي طالبه بتوفير المواد الغذائية المفقودة بدل التعب و الذّلّ والوقوف في طوابير المغازات للظفر بباكو حليب و كيلو سكّر؟ و لماذا و لماذا و لماذا ؟؟…
لماذا لا يتذكّر الرّئيس أن له شعبا عليه الاستجابة لطلباته، إلاّ حينما يتعلّق الأمر بالجانب السياسي والانتخابي الذي به يتحقّق مشروعه الذي لا يفهمه إلا هو و مفسروه “الشفتريون”
ما دور هيئة الانتخابات ، ما دور المستشارين في القصر و الحكومة، ما دور الوزراء إن لم يكن تنبيهه إلى عقليّة التونسي و إلى طبيعة الواقع الانتخابي و صعوبة الإجراءات الإداريّة و التعقيدات البلديّة قبل إصدار قانونه الانتخابي ( الذي صيغ كالمعتاد في الغرف المظلمة و بعيدا عن أيّ تشاور أو استشارة )؟ أليس من دور المستشارين الاستشراف و قراءة الواقع و توقّع فرضيّات التطبيق و اكتشاف ما قد يكمن في القانون المقترح ـ قبل إصداره ـ من خلل و صعوبات إجرائية و ما يمكن أن ينحاز به عن غايته الأصليّة من مقاومة للمال السياسي و الفساد وشراء الذّمم ؟؟
لماذا يتركون الرئيس مضطرّا في كلّ مرّة إلى إدخال تغييرات على النّصوص التي يمضيها ؟
الرئيس هو من أصدر القانون لكنّه لم يتحمّل مسؤوليّة أخطائه بل حمّل المسؤوليّة إلى بعض أعضاء المجالس المحلّية كما ورد في بلاغ صفحة رئاسة الجمهوريّة، فجعل منهم كبش فداء و شمّاعة يعلّق عليها قصر النظر و قصور القانون. و في ذلك مغالطة للرأي العام الوطني و الدّولي (مثلما حصل مع مشروع الدّستور و ما طرأ عليه من تنقيح بتعلّة أنّه تسرّبت إليه أخطاء دون أن يقع تحديد المسؤول عن الأخطاء المتسرّبة ( 46 خطأ ) خاصّة أنّ بعضها لمس الشكل و البعض الآخر لمس المضمون. بل أكثر من ذلك إنّ تعديل بعض فصول القانون الانتخابي اليوم بعد انطلاق العمل به مخالف للأعراف الدّولية و يمكن أن يمسّ من مصداقيّة هذا المسار الانتخابي المثير للجدل منذ الإعلان عنه
فكيف سيكون موقف هيئة الانتخابات و كيف سيكون موقف المترشحين و الأحزاب و كيف سيكون موقف الهيئات الرّقابية ذات الخبرة في المجال الانتخابي من هذا التعديل المنتظر ؟