جور نار

تساؤلات حول الديمقراطية والانتخابات في تونس اليوم[1]

نشرت

في

 إذا كانت عملية المشاركة في الانتخابات في المجتمعات الغربية نفسها، تتميز بظاهرة العزوف ويعيش المنوال الغربي للديمقراطيات التمثيلية أزمة حقيقية بسبب سيادة باراديغم السوق، وهيمنة أصحاب المال واستفحال ظاهرة تلاعب الإعلام بالرأي العام …. فكيف يكون الأمر في مجتمعات تابعة، غارقة في الاستهلاك، ما زالت تتلمّس طريقها إلى الحداثة وبناء مفهومي العقلانية والفرد وفي مناخ دولي غير واضح المعالم وشديد الخضوع لآثار العولمة وما بعد الحداثة ؟

<strong>د مصطفى الشيخ الزوالي<strong>
  1. كيف يمكن أن تُقبل الجماهير الواسعة على الانتخابات ونرسي الديمقراطية التمثيلية في مجتمع مثقل بتاريخ اجتماعي وسياسي طويل قد طبع الثقافة السياسية بسمات التعصب والقصاص وبعقلية “الغنيمة والوليمة” ومفاهيم مثل “الزعامة” و”الراعي والرعية” و”رزق البيليك ” و”التتريك” و”السلب والنهب”[2]  و”الله ينصر من صبح” و”أمر مولاي”… ، أي كل ما يكرس الانفراد بالحكم والاستبداد وهيمنة باراديغم الطاعة، ومجتمع ظلت خاصته من الساسة والفقهاء يرددون ويعملون لقرون طويلة وفق شعار “إلجام العوام عن الخوض في الأمر العام” . أما مع التاريخ القريب وخاصة المرحلة النوفمبرية، فأخطر ما تركه نظام بن علي في مجال الثقافة السياسية هو الحرص على تلميع الواجهة وارتباط العمل الحزبي والسياسي بالفساد والانتهازية، إلى درجة أن الصدق والالتزام الحقيقي بالقيم وبقضايا الناس صار من مرادفات “السذاجة” و”الوهم” أو التفلسف” أو “البقاء بالبرج العاجي”….
  2. كيف يريدون من الشباب ومن النساء أن يُقبلوا على المشاركة في الانتخابات ويساهموا في بناء الديمقراطية والمواطنة في مجتمع لم يتجاوز، في جزء هام منه، قيم المجتمع الأبوي المغلقة القائمة أساسا على السن والجنس ولم يتحرر بعد من الأفكار الجاهزة والمسبقة ومن السلوكات المتصلة بهذين العاملين. في مجال الحياة السياسية كما في أغلب المجالات، ورغم كل المكاسب القانونية التي تحققت، يهيمن الرجال على النساء ويهيمن الكهول والشيوخ على الشباب.
  3. هل من السهل بناء الديمقراطية في مجتمع يختل فيه التوازن بين الفئات الاجتماعية المرفهة والفقيرة والجهات الداخلية والساحلية، كثير من “أفراده” لم يتحرروا من الفقر والأمية، لا يشعرون بالانتماء إلى الدولة والوطن قدر خضوعهم إلى العصبيات العائلية والجهوية والعروشية والقبلية ….و كأن ما كتبه ابن خلدون عن هذه العصبيات وعن الصراع بين البدو والحضر لا يرجع إلى قرون بل إلى أيام.
  4. هل سيفلح في اختيار نواب الشعب في البرلمان أو اختيار رئيس الدولة، ما لم يتعود على حسن الاختيار في مجالات أخرى أكثر ارتباطا بالحياة الخاصة، كالزواج أو التوجيه المدرسي أو الجامعي أو المهني؟ هل نجحت العائلة أو المدرسة أو وسائل الإعلام أو الجمعيات أو  الأحزاب، في إرساء التربية على المواطنة الحقيقية وتحمل مسؤولية الاختيار بناء على فهم موضوعي للذات وللقضايا موضوع الاختيار… لنتساءل عن ذلك في موضوع الزواج مثلا: كم من التونسيين أو التونسيات يقدر على اختيار قرينه أو قرينته، عن دراية واقتناع وتجسيما لإرادة فردية حرة ومتحررة من كل المنظومات السالبة للإرادة، مثل العادات الاجتماعية البالية أو أنماط الاستهلاك المعولم ؟
  5. هل يمكن تأسيس الديمقراطية والمواطنة الحقيقية بمجرد إجراء الانتخابات، خصوصا إذا كانت ستوصل إلى الحكم أحزابا أو أفرادا يرفعون شعار الديمقراطية وخدمة المصلحة العامة، وهم لا يؤمنون أصلا بمضامين الديمقراطية والمواطنة ولا يعيشونها في حياتهم الخاصة أو أحزابهم، بل يتخذونها مطية لتحقيق مشاريع خيالية أو أداة لتحقيق مصالح فردية أو فئوية ضيقة ؟ 
  6. أي معنى للديمقراطية وللحرية وأي معنى للفوز في نتائج صندوق الاقتراع مع من يستثمر في  الوعي السياسي القاصر، في التجاذبات الإيديولوجية، في النعرات التقليدية، في الجهويات، في الرهاب الإسلامي(الإسلاموفوبيا)، في الخوف من الاستبداد (الديكتاروفوبيا). كل ذلك لا يساعد الفرد على التعبير عن رأيه بحرية، ويخضعه لمشوهات أو مفسدات الاختيار وكل أشكال الترغيب أو الترهيب، نذكر منها:
  7. الوعود الزائفة و”الشعبوية”، و”البرامج” التي لا تتأسس على شروط الواقع التونسي وما هو متاح في سياق العولمة والرأسمالية المتوحشة التي لا تترك سوى خيارات محدودة أمام أغلب الدول التابعة في العالم.
  8. التطميع بمجانية كل شيء ( تحريك الطمع وتكريس الكسل والتواكل)
  9. المال السياسي وشراء الأصوات
  10. المضايقات والتهديد بقطع الرزق، أو بالزج في السجن…( قبل 2011)
  11. التهديد بالذهاب إلى نار جهنم ( هي الرسالة الضمنية لشعارات مثل “انتخبوا  اللي يخاف ربي”.)
  12. في نهاية التحليل ما هي أبرز معاني الانتخابات والديمقراطية كما ظهرت في التجارب الغربية، والتي يمكن أن تعمق فهمنا لها وتساعدنا على بنائها ؟

تعبر الديمقراطية والانتخابات في نهاية التحليل عن اختيار، اختيار فردي لشخص يشعر بأنه قيمة أساسية وبأنه حرّ وله إرادة حرة، قادر على مواجهة وضعية الاختيار واتخاذ القرار النهائي. من المفروض أن يتبلور هذا القرار بعد إدراك وفهم للواقع وتدقيق في المعلومات المتداولة، وأن تكون مصادر المعلومات متعددة ومتنوعة. من ناحية عرفانية يتطلب الاختيار التدرب على معالجة المعلومة وعلى مجموعة من العمليات الذهنية مثل الفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والاستنباط… تمهيدا لإصدار الحكم واتخاذ القرار النهائي. من ناحية نفسية اجتماعية يتطلب حسن الاختيار أن تكون للفرد رؤية واضحة وتصورات منسجمة عن ذاته وعن الآخر وعن الحياة عموما. قادر على أن يحقق في الآن نفسه التحرر الفردي والاندماج الاجتماعي في المستويات المختلفة للانتماء (مثل العائلي والجهوي والوطني والكوني…) ويقدر على إدارة التناقضات داخله بمهارة تجعله متوازنا لا يعاني الصراعات المرضية ولا الازدواجية في المواقف ولا في الشخصية.

 الفرد المتحرر يمتلك وعيا بطبيعته الداخلية الخاصة ثم السلوك انطلاقا من ذلك الوعي دون خوف من آراء الآخرين ودون اغتراب في الجماعة أو الزمان أو المكان، ودون خضوع لآليات لاواعية كالصد اللاشعوري أو الإسقاط أو الكبت… يسعى إلى مقاومة عمليات التنميط والقولبة، التقليدية والمستحدثة، ويحاول تغيير ما يرفضه من عادات الناس بكل هدوء وثقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]   كتبنا هذا النص قبل 7 سنوات تفاعلا مع أجواء الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس أواخر سنة 2014. لكن اليوم، في أواخر سنة 2021، مع ضياع البوصلة السياسية وغموض الأفق، تبدو هذه التساؤلات المطروحة أكثر راهنية وإلحاحاً.

[2]  هناك أغنية تونسية قديمة لا تزال تذاع بمختلف الإذاعات،: يفتخر فيها المغني بانه قاطع طريق ويقدر على السلب والنهب: ” أنا الترقي ولد الترقيّة قطاع طريق والصحراء ليا” …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version