تعالوا نتّفق على الاختلاف … لدرء الأسوأ الذي لا نريد، لوطن نريد !
نشرت
قبل سنتين
في
لسائل أن يسأل ما الذي يجعل أتباع ” انقلاب” 25 جويلية الدستوري يغرقون في بحر من السعادة والتفاؤل؟ فهل ستمطر السماء ذهبا وفضّة لأجل عيونهم؟ أم هل سيملأ صندوق النقد الدولي جيوبنا بما منعه عنّا منذ أكثر من سنة؟ أم هل هو تقرير عبد الفتاح عمر الذي سيملأ بصلحه الجزائي خزائن الدولة أوهاما؟ فهل أتى حقّا هذا “الانقلاب” بما يسعد الشعب كل الشعب؟ أم هو الحقد والرغبة الجامحة في التخلّص من الخصوم الذي رفع منسوب هرمون السعادة وبويضة التفاؤل عند اتباع ساكن قرطاج؟ فهل أصبح الحقد هرمونا من هرمونات السعادة في بلادنا، فنحن ومنذ 14 جانفي أصبحنا أكبر دولة مصنّعة للحقد ومنتجة للحاقدين؟
تونس ومنذ ذلك اليوم تعيش حالة غاية في التعقيد لا يمكن حلّها والخروج منها بالشعارات الجوفاء وبمجرّد التهديد والوعيد…والواضح أن خطأ ما حدث في ما وقع ذلك اليوم وبعده…فمصيبة ذلك اليوم هي أنه تلوّث بالحقد والرغبة في الانتقام والإقصاء، فلم يخرجنا كماكنّا نامل ونطالب مما كنّا فيه يوم 24 جويلية بل أغرقنا في وضع من الصعب الخروج منه بمجرّد توزيع الشعارات والخطب والتهديد والوعيد يمنة ويسرة…وبمجرّد هدم كل البناء الذي وجدناه قبلنا عوض ترميمه وإصلاح ما فسد منه، وما لا يستجيب لمتطلبات المرحلة ولا يتحمّل تبعات الرجّات الارتدادية للأزمة… فالمنطق يقول إن ما يُبنى على خطأ يؤدّي إلى خطأ أكبر في أغلب الأحيان، وهذا ما تعيشه تونس منذ ذلك اليوم…
فالبناء على أسس رخوة وخاطئة وبأساليب خاطئة يؤدي إلى المزيد من المصاعب والمطبّات كما ينتج عنه حالة عامة من اليأس والإحباط…فهل من الفخر أن نقصي خصومنا ومن نهابهم في قادم المحطّات الانتخابية لنغطّي على فشلنا في تسيير دواليب الحكم والدولة وفي إصلاح ما انقلبنا على شركائنا من أجله…وهل من المنطق أن نغطّي على أخطائنا وفشلنا بــ”إلهاءات” وأخطاء أخرى…فبالله عليكم كم من نصر لقضية وطنية حققتم بما أتيتم منذ ذلك اليوم…؟ وكم من حلّ لمشكلة أوجدتم…؟ وأين كنتم يوم كان خصمنا أكبر من خصمكم…وعدونا أعتى ممن تعتبرونه عدوكم اليوم…؟؟
ألسنا نحن من عانى الفقر قبل أن تكونوا أنتم ما أنتم عليه اليوم…؟ ألسنا نحن من عانى الخصاصة يوم كنتم لا شيء…؟ ألسنا نحن من أرهقته سنوات البناء…؟ ألسنا نحن من جاء بعد الخراب والجهل اللذين تركهما المستعمر…؟ ألسنا نحن من قاوم الجهل…؟ ألسنا نحن من قاوم الأوبئة والأمراض…؟ ألسنا نحن من عبّد الطريق لمن جاء بعدنا…؟ ألسنا نحن أبناء وأحفاد الجيل الذي قاوم المستعمر ومات…؟ ألسنا نحن من لم تسعفه الحياة بأن يجد ما وجدتموه أنتم…؟ ألسنا نحن من هيأ لكم الطريق لتكونوا أنتم اليوم…؟ هل ذهب أحدكم إلى المدرسة حافي القدمين…؟ هل ذهب أحدكم إلى المدرسة بسروال صنع من قماش أكياس بيضاء كتب على مؤخرته “هدية من الشعب الأمريكي ليس للبيع أو المبادلة”…؟ هل ذهب بعضكم إلى المدرسة على ظهر حمار لكيلومترات…؟ هل ذهب بعضكم إلى المدرسة وهو يرتجف من البرد…؟ هل ذهب بعضكم إلى المدرسة بمحفظة من قماش أزرق خاطتها أمه مفاخرة بما أنجزته…؟ هل أكل بعضكم مسحوق البيض الذي كان يصلنا من بلاد العم سام ليجوع بعده ليومين…؟ هل عشتم لحظة مطاردة الممرض الذي يجري خلفكم ليضع في اعينكم مرهما ضدّ الرمد وأنتم تصرخون خوفا ورعبا…؟ هل عشتم حملات التلقيح الجماعية سنوات الأوبئة…؟ هل عاش بعضكم الجوع بما يعنيه الجوع…؟ هل اكتفى بعضكم بوجبة واحدة ليوم أو يومين…؟
اليوم تلوموننا فقط لأننا انتقدنا تصرفكم أنتم وكيف تسعدون وتصفّقون للفشل وتباركونه…أنتم “الجيل الخطأ” أي نعم أنتم “الجيل الخطأ” الذي لن يقدر على إصلاح الخطأ…نعم نلوم صمتكم وسعادتكم الكاذبة لفشل قد يغرقنا في الازمة أكثر ويدخلنا في أزمة أكبر…نستغرب ونرفض شماتتكم في خصومكم ورغبتكم الجامحة في التخلّص من كل من يعارض بناءكم القاعدي “الأعرج”…نحن لا ننتقد اختلافكم عنّا…لكن ننتقد ما تضمرونه لكل من يختلف معكم…ولا ننتقد مساندتكم ولا دعمكم لنظام سياسي لم ينجز شيئا ولو صغيرا يحسب له منذ ذلك اليوم الذي تفاخرون به بصيغته “القيسونية” نسبة لما أتاه الرئيس قيس سعيد، ونفاخر به في صيغته الاصلية “البورقيبية” نسبة لذكرى إعلان الجمهورية التي اتى بها بورقيبة العظيم ورفاقه رحمهم الله…لا لم ولا ننتقد ذلك ولم نفكّر في الأمر حتى…والأغرب من كل هذا أن من يلوموننا على لومنا يعتبرون أنفسهم من الملائكة…وكأنهم من جنس أسمى من جنسنا وكأنهم لم يخلقوا من صلصال مثلنا…فهم الأرقى…وهم الأقدر…ونحن لا شيء…فنحن نمثّل الرجعية…وهم يمثلون التقدمية والحداثة…ونحن الجهل وهم العلماء…بعضهم يخيّرنا بين “قيسهم” نسبة لقيس سعيد، وإن لم نكن معه فنحن مع “النهضة” يا لغباء بعضهم…ويا لحماقة بعضهم الآخر…هل بهذا الذي تأتون تجمعون الناس حولكم؟؟
هكذا هو حالنا، نحن شعوب الدول النائمة التي ينعتونها بالنامية، فكل واحد منا يعاني من مرض ومن عقدة وجميعنا نخاف من أن نعترف بما نعانيه…نحن من الشعوب التي تخشى من تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، عكس الشعوب الأخرى التي تتحدث بوضوح وشفافية وصراحة دون لف او دوران…نحن من الشعوب التي تخدع نفسها وبعضها بتسميات وعناوين ونعوت وشعارات فضفاضة…فبعضنا يرى نفسه أرقى من بعضنا الآخر، فقط لأنه أتى ما لا تسمح به أخلاق الآخر بإتيانه…فاليوم قد تصبح مناضلا لو أتلفت عين أحدهم من خصومك…وقد تصبح مناضلا حديث كل الألسن فقط لأنك تجرأت على عون أمن وشتمت أمه التي ماتت منذ سنة أو قذفته بحجر في مسيرة…وقد تصبح شهيدا وأنت تسرق فضاء تجاريا على هامش مسيرة تطالب بالحرية والكرامة…
هكذا نحن شعب كل التناقضات وكل العجائب…لا نخرج من مشكلة الا ونجد اختها وابنة عمّها وقريبتها وصديقتها تنتظر خلف الباب لتدخل علينا من حيث لا ندري ولا ننتظر…نحن صناع الفشل بما نأتيه…ونحن صُنّاع الأزمات لأننا نكره العيش دونها…ونحن من ينعتنا البعض الآخر من الشعوب بالشعوب الفاشلة لأننا نحن من يعيد التاريخ نفسه عندنا، في أسوأ أشكاله… ونحن من يعترف جميعنا ولو بعد حين أن أمسنا أفضل من يومنا…وأن حاضرنا أفضل من القادم إلينا…أتدرون لماذا؟ لأن حاضرنا لم يأت لبناء مستقبلنا بل جاء ليغتال تاريخنا ويطعنه من خلف…ونسي أن الأمم التي تغتال تاريخها تقتل حاضرها وتجهض مستقبلها…نحن من الشعوب التي لا تريد الاعتراف بمشاكلها وبأسباب مشاكلها خوفا من تبعات هذه الأسباب…ولأننا نخاف مشاكلنا نخيّر الصمت على أن نتحدث عنها…فنحن نكابر ونغالي في تقدير واقعنا الاجتماعي ومستوى وعينا السياسي والثقافي…لذلك تتعقّد عندنا كل مشاكلنا فردية كانت أو جماعية دون أن نضع لها حدّا…ولا نجد لها حلاّ…
فيا أبناء “جيل الخطأ” وأنتم منّا لا تلومونا كثيرا…نحن نريد فقط تفعيل القاسم المشترك بيننا جميعا أبناء هذا الوطن العزيز…نريد فقط دولة القانون والتعددية والشراكة لا دولة الفوضى والفشل والحركات المستنسخة من تجارب سياسية ثبت فشلها في كل الدول التي عصفت بها ريحها…كما لا نريد ان نكون دولة الحزب الواحد والحاكم الواحد…ولا دولة السلطان الحاكم بأمره أو امير المؤمنين الذي يسجن خصومه ويغدق على اتباعه بجملة واحدة “أعطه الف درهم وناقة وبعير، يا حذيفة!” … نحن على اعتقاد راسخ اننا اذا تمسكنا بدولة القانون والتعددية والشراكة والاختلاف فسنودّع إلى غير رجعة كل الخيارات المستنسخة الفاشلة التي ابتلينا بها منذ 14 جانفي…والتي أعطينا فيها كل شيء ولم نأخذ منها أي شيء، ومن هنا يمكن اعتبار مسؤولية البحث عن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي البديل، مسؤولية جماعية أخلاقية قبل كل شيء ووطنية وتاريخية و”تأريخية” واستراتيجية هامة ولا غنى عنها…فما نحن فيه اليوم قد يأخذنا بعيدا في سياسة الفرد الواحد والسلطان الآمر الناهي…ولا أظنّ أن هذا الشعب الذي اسقط الخوف من حساباته منذ 14 جانفي سيقبل بالعودة إلى دولة الحاكم بأمره…وصاحب الجلالة…
هذا الشعب يريد الحرية الذي اشتمّ بعض رائحتها…فللحرية طعمٌ ورائحة لا يعلمهما إلا من نال شرفها…فبالحرية فقط يمكن انجاز طموحات الشعوب وتحقيق المستحيل…والصبر على الأزمات…ولا أظنّ ان هذا الشعب سيقبل بما يردّده بعض الذين يأخذهم الحنين إلى حكم السلاطين أولئك الذين يرفعون شعار “الحرية والديمقراطية يعرقلان كل نمو اقتصادي…والخبز لا تصنعه الديمقراطية”…فتعالوا قبل كل شيء نتّفق على الاختلاف لدرء الأسوأ الذي لا نريد…لهذا الوطن الذي نريد…