دفءُ نار

تونس بلاد الأنصاف… وفنّ التصغير

نشرت

في

يقول جبران خليل جبران :

“لا تُجالس أنصاف العُشّاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ لأنصاف الموهوبين، ولا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، ولا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، ولا تحلم نصف حلم… وإذا رفضت فعبر عن رفضك؛ لأن نصف الرفض قبول. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.”

<strong>منصف الخميري<strong>

نفس هذه الفكرة التي تكتظُّ بها مقولة جبران كانت تسكنني دائما لاعتقادي أن التونسي يبالغ دائما في وسطيّته ونصفيّته وميله إلى اعتناق المواقف غير الحاسمة وتفضيله للمُبهم والمُلتبس وتطويره لجهاز اصطلاحي خاص يحتمي به مثل قوقعة السلحفاة اتقاءً لأية منزلقات.

فكثيرا ما يلجأ التونسي إلى اعتماد صيغ التصغير (وهي ظاهرة لغوية وصيغة صرفية تميّزت بها اللغة العربية أكثر من غيرها للتقليل من حجم المصغر أو تحقيره أو تدليله…) ممتنعا عن الانخراط في حياته بملء غزارتها وتدفّقها، ويسعى إلى التقليل من شأن مُتَعِه، فعندما يبتني دارا على سبيل المثال، يُسمّيها دْويرة والسيارة تصبح كريهبة والغداء يضحى فْطيّر  إلخ… وكأنه يعتبر نفسه من ناحية غير جدير بكل ما يجنيه لقاء جهوده ومعاناته ولكونه من ناحية أخرى عانى كثيرا من الفقر والخصاصة وظلت هذه الأشياء الصغيرة على حيويتها حكرا على فئات اجتماعية دون سواها… بل يعتبر التونسي أن مجرّد الاستمتاع بلذائذ الدنيا التي وهبتها إيّاه السماء هو ضرب من الإثم والمعصية الذي يتوجّب التكفير عنهما من خلال ازدراء الحياة نفسها وكل ما تعرضه من شهوات.

التونسي كذلك لا يمضي في بلورة أفكاره إلى نهاياتها المنطقية، فيبدو مقتنعا حدّ التعصّب بقيم الحرية لكنه يدعوك إلى عدم المُجاهرة بما قد يصدم المجتمع في تديّنه ومحافظته، ويدافع عن العدالة الاجتماعية لكنه يسارع إلى التأكيد أن “صوابع ايديك ماهمش كيف كيف” و”ربي خلقنا طبقات” وأن “الله يحب الأغنياء لأن الفقير لا يقدر على تأدية واجب الزكاة ولا يمكنه الحج إلى بيت الله الحرام” كما صرح الغنوشي ذات يوم.

والتونسي يقول لك إن التوانسة عائلة واحدة لكنه لا يجد حرجا في استحضار شعارات بائسة من قبيل كل بلاد تخدمها أمّاليها ولدينا كفاءات محلية كبرى تُعفينا من اللجوء إلى أسماء قادمة من ولايات أخرى وبنتي تبور وما تاخذش برّاني…

والتونسي أيضا لا يعشق من الألوان إلا الرمادي والبني والرملي والدخاني لأنه يزدري ارتداء الملابس ذات الألوان الحارّة مثل الأحمر والبرتقالي والأصفر معتبرا إيّاها ألوانا نسويّة مائعة لا تليق بحُماة الفحولة.

أمّا السياسي التونسي فلا يقارن بلده ببلدان صغيرة في حجم تونس (مثل البلدان التنّين الأسيوية ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ) لكنها استطاعت في ظرف عشريتين أو ثلاث الخروج من منطقة البلدان الصاعدة الى مربع البلدان المتقدمة في نفس المستوى تقريبا مع التنّين الأكبر اليابان…بل يقارنها بـــ “البلدان المجاورة” و “الاقتصاديات الشبيهة” و “البلدان ذات المؤشرات المتوسطة مثل البرتغال واليونان” …بل وصل ببعضهم التّحذلق في 2012 إلى حدّ تمجيد نمط الحياة في أفغانستان باعتباره يؤسّس لنموذج تنموي يقطع مع المناويل الغربية المقيتة ؟

على صعيد آخر، نجد أن أغلب المتمدرسين التونسيين لا تُغريهم كثيرا المعدّلات القوية بل هدفهم الأقصى الحصول على “عشرة الحاكم” الإخْصَائية والإقصائية في ذات الوقت، ويخيّر بعضهم عدم استكمال تدبيج ورقة الامتحان حتى وإن توفر متّسع من الوقت لأنه سئم وملّ ولجّ به الشوق الى تصفح شاشة هاتفه الذكي وإرسال تعابير انتشائية من نوع أموري في الشنقر وينقر وجوّي فسفس والسهولة والبشاشة.

كما نلاحظ أن كثيرا من الشباب التونسيين عندما يكون بصدد البحث عن شغل، يبدأ باقتناء غمامات (كتلك التي توضع لخيول السباق) ينحسر بموجبها البحث في خْديمة متاع ركشة وشهيريّة. أمّا أن يُتابع تكوينا مهاريا في تقنيات صنع الخبز ليصبح بعد سنوات قليلة مُزوّدا رسميا لقصر الإيليزيه بخبز الباقات كما حدث مع الشاب التونسي رضا خضر الذي فاز سنة 2013 بالجائزة الأولى في مناظرة باريس لأفضل باقات ثم انتدابه رسميا لدى الرئاسة الفرنسية… فذلك مُنجز خارق لا يحدث إلا مرة واحدة في القرن بالنسبة إليه أو يلجأ الى الاحتماء بذلك الارتكاس التونسي الأصيل والمتمثل في “كل شيء بالأكتاف” و “لازم عندو أشكون” و “قائمة الفائزين مُعدّة سلفا” الخ…

التونسي أيضا غير حاسم في إجاباته وتعليقاته وردوده، هو وسطي ومعتدل ويعشق شدّان العْصا مالوُسط. لا يقول على سبيل المثال سنلتقي مساء على الساعة الرابعة والربع بالمكان الفُلاني بل “نلتقى ان شاء الله بعد العصر في مكان ما يكون موش بعيد على وسط البلاد” و لا يعبّر بوضوح باتّ عن إعجابه بطبق شهيّ تناوله بل يكتفي بـ “موش دوني يعدّي روحو” أو “تي هانا سدّينا الرّمق وبعد كل شيء هي أكلة مثل كل الأكلات” أو لا يقول “أحبّك” مع نقطة حاسمة تُنهي التعبير عن هذا الشعور النبيل وتوضّحه، بل “نحسّ بحاجة ما نعرفهاش اشنية نحوك مطيّرتلي كْنيني”.

وأخيرا أعتقد أن هذه العقلية النصفيّة أرخت بظلالها على الملعب السياسي حيث تتعاظم مفاهيم التناصف والمناصفة والتوافق والتفاهم واتساع المشهد للجميع والتسامي عن الصراعات وموائد الحوار والإفطار و”لا إقصاء إلا لمن يُقصي نفسه” الخ… الطوائف الحاكمة لها مصلحة كبرى في استدامة وضع الشبه شبه ولا غالب لا مغلوب وتصليب عُكّاز الانتقال الديمقراطي الذي أردانا قتلى ومُصابين وجرحى ومُبادين. حيث لهم صناديق الانتخاب ولنا صناديق الموت والاكتئاب.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version