لا تدّعي هذه الورقة الخوض في مُجمل إخلالات منظومتنا التعليمية وعِللها بل تقتصر فحسب على رصد بعض المعضلات الكبرى لنظامنا التربوي نظرا إلى طبيعة السياق أولا وتشعّب المسألة وطابعها المركّب ثانيا. علما بأن نجاعة النظم التربوية وفاعليتها تُقاس في أغلب بلدان العالم من خلال جملة من المقاييس المتفق حولها وهي :
إقبال التلاميذ على مدرستهم ومدى امتلائهم ببهجة التعلّم داخل أسوارها وفي فصولها وكذلك دافعيتهم ومثابرتهم.
التزام المُدرّسين ومشاركتهم في الحياة المدرسية ومدى انتباههم إلى مشاغل تلاميذهم وصعوباتهم في التعلم.
نجاعة النظم التربوية أي قدرتها على قيادة التلاميذ نحو أفضل النتائج والمساهمة في التقليص أكثر ما يمكن من التلاميذ ذوي الصعوبات والارتقاء الأقصى بالتلاميذ المتفوقين.
فاعلية النظم التربوية التي تقاس بمدى تحقق النتائج في ضوء حجم الإنفاق العام على هذه النظم.
الإنصاف أي القدرة على تطويق الآثار السلبية للأصل الاجتماعي وانعكاسها على مردود التلاميذ واقتداراتهم.
غير بعيد عن هذه المقاييس الدولية، سأتحدث عن ثلاثة مفاصل أساسية أعتبر شخصيا أن أي إصلاح قادم لا بدّ أن يستهدفها بالعناية والتأهيل والمعالجة وهي عدم تكافؤ الفرص بين الجهات و ضعف المكتسبات القاعدية في التعلمات الأساسية بصورة عامة و عدم تنويع مسالك التعليم والتكوين أمام أبنائنا.
أولا : بعض الولايات لكل منها مثل حظ ولايات أخرى مجتمعة
المؤشر : لو أخذنا مثال شعبة باكالوريوس أعمال بمعهد تونس للأعمال باعتبارها مسلكا جامعيا متميّزا يتطلب الالتحاق به معدلات عالية واختبارا خصوصيا لأن كل التعلمات تُسدى باللغة الانكليزية، نجد أن 5 ولايات تحصد لوحدها 60 بالمائة من المقاعد المفتوحة بهذه الشعبة.
من المؤسف أنه توجد علاقة طرديّة بين مؤشرات النجاح بصورة عامة ومؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي أنه كلما زادت نسب الفقر والبطالة وتدنّت نسب التنمية الاقتصادية والرّفاه الاجتماعي، تدنّت نسب النجاح المدرسي وتضاءلت إمكانيات ولوج مسالك جامعية مرموقة ذات تشغيلية عالية ولها انعكاس على المدى المتوسط والبعيد على نصيب الجهات الداخلية من الكفاءات المتخرجة في الهندسة والطب والتكنولوجيا والمالية الخ…
وبالرغم من أن المدرسة التونسية لعبت تاريخيا دور طوق النجاة أو المصعد الاجتماعي الذي سمح لشرائح واسعة من الطبقات الشعبية بالحصول على وظائف ومواقع إدارية عالية، فإنه بات من الواضح اليوم أن نفس هذه المدرسة توقّفت عن الاضطلاع بدور “تطويق تأثير المحيط الاجتماعي في النتائج المدرسية” بل تعزز دورها في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية وتأبيدها.
ثانيا : ضعف المكتسبات في التعلّمات الأساسية
المؤشر : حوالي 70 بالمائة من الناجحين في الباكالوريا ليس لهم معدّل في مادة الفرنسية
لا بدّ من توفّر أرقام وإحصائيات دقيقة تشمل مختلف مجالات التعلم الأساسية لتمسح مؤهلات تلاميذنا في الحساب والرياضيات والفيزياء واللغات حتى يتمّ تدارسها بشكل معمّق والخروج باستنتاجات ذات مصداقية … ولكن هذا المؤشّر المتّصل بمؤهلات تلاميذنا الناجحين في الباكالوريا (والتي من حسن حظنا أنها مازالت بمنأى عن المحسوبية والذاتية باعتبارها امتحانا وطنيا خاضعا لضوابط صارمة مشهود بها)، في مادة أساسية وهي اللغة الفرنسية غير بعيد بالمرة عن مؤهلاتهم في باقي اللغات بما فيها اللغة العربية الأم وكذلك بالنسبة إلى الرياضيات والفيزياء. وبالتالي يمكن من هذا المنطلق بناء استنتاجين أساسيين هما :
محطة الباكالوريا هي للأسف أول محطة تقييمية حقيقية على المستوى الوطني (باعتبار أن عتبة السادسة من المرحلة الأولى من التعليم الأساسي وكذلك التاسعة هما عتبتان اختياريتان لمن يرغبون في الالتحاق بالمدارس الإعدادية أو المعاهد النموذجية) أي 13 عاما دون تقييم وطني بما يتسبّب في وصول آلاف التلاميذ إلى سنّ الـ 18 أو الـ 19 بمؤهلات ضعيفة جدا في كل ما هو أساسي.
غياب خطة وطنية (نعم خطة استراتيجية وطنية كما بالنسبة إلى الغذاء والطاقة والمياه والجيش) للنهوض باللغات والمواد العلمية : قِوام أي نظام تربوي ناجع وفاعل ومُنصف.
ثالثا : تنويع مسالك التعليم والتكوين
المؤشر : في أكثر من ولاية، عدد الناجحين بالإسعاف في الباكالوريا يبلغ حوالي 50 بالمائة
هذا العدد الكبير من الناجحين بالإسعاف في الباكالوريا الذي يُصبح فاجعا ومُفزعا إذا ما أضفنا إليه العدد الكبير هو الآخر من الناجحين بمعدلات متوسطة يُفيد بشكل جليّ أن “عرض التكوين” في الثانوي بحاجة إلى مراجعة جذرية لأن أغلب المُسعفين والناجحين بمعدلات تقريبية ينتمون إلى مسالك دراسية بعينها (الآداب والاقتصاد والتصرف) وأنهم سيلجون أبواب الجامعة بحظوظ متواضعة في الذهاب إلى أقصى مراقي التعليم الأكاديمي العام.
والحل حسب اعتقادي قد يتمثل في إعادة الاعتبار للعتبة التقييمية في السادسة أساسي التي تُفضي إلى مسارين كبيرين : تعليم عام للمتفوقين وتعليم تكنولوجي لمن هم أقل منهم تفوقا (مع ترك المعابر مفتوحة حتما للانتقال بين المسارين) وعتبة تقييمية ثانية في التاسعة تُفضي هي الأخرى إلى مسارين كبيرين : تعليم ثانوي عام بداخله تنويعات وتلوينات تتناسب مع تنوع ملمح تلاميذنا وتعليم تكنولوجي مُمهنن… بشرط كسر الحصون البالية وإضفاء أقصى درجات التنافذ والتكامل العضوي بين مختلف أضلع المنظومة الوطنية لتكوين الموارد البشرية.