شاهدنا منذ أيام شطرا من حفل افتتاح مشاركتنا في معرض دبي الدولي المؤجّل (اكسبو 2020) … و بصرف النظر عما قيل في دسامة المشاركة من عدمها، و حسن التحضير من عدمه، و ظروف الخروج و الوصول … دعنا من كل هذا، ما أثار انتباهي أمر آخر و هو صورتنا الثقافية التي شئنا أن نسوّقها لدى الأشقاء و الأصدقاء … بل حتى غير الأصدقاء ربما، فالمعرض يضم ما يقارب المائتي دولة … و فيها من لا يعرفنا، و فيها من نراه لأول مرة …
بعد كلمة وزيرة التجارة، أعلن مذيع المناسبة عن استهلال موسيقي لمصافحة ضيوف تونس في جناحها بمعرض دبي … و مع الاسم المعلن عنه (لطفي بوشناق) أحسست ببعض التوجّس حتى من قبل أن يظهر و قلت يا ربي اجعلني من الكاذبين … غير أن ما خفت منه وقع، إذ دخل مطربنا التونسي على الحضور و هو يقبّلهم في الهواء كعادته السيئة مرسلا قبلاته بيديه و أصابعه … ناسيا دائما أن تلك من صنائع مغنيات الملاهي الصغيرات اللعوبات، و ليست من شيم مطرب يحترم فنه … و إن لم يكن كذلك فعلى الأقل ما زال يحترمه عديدون حقا أو باطلا … ثم إنك في السبعين يا عمّ، و سفاه الشيخ لا حِلم بعده …
مع هذه التحية المتصابية التي لم يقلع ممثلنا بعدُ عنها، زادت على همّنا القيافة التي طلع بها على الجمهور الشقيق و الصديق و غير الصديق … جبة من صوف شكلاطية اللون، و شاشية سوداء في لون الفحم تكلل هامته المتراقصة كبرق الليل … الله الله … أوّلا للجبة التونسية ألوان فيها الجميل و فيها القبيح و أنت اخترت أقبحها، كما أن المناسبة و المكان و معطيات ذوقية عدة تفرض اختيارا أفضل بكثير لو استشرت متخصصين في “الديزاين” … و ثانيا و إذا أصررت على غطاء الرأس ذاك، فلعلمك إن الشاشية التونسية الذائعة حمراء أو لا تكون … صحيح أنه في زحام الفجاجة الذوقية أيام التسعينات طلعت للشاشية تلوينات خضراء و صفراء و برتقالي و بنفسجي (طبعا) … و لكن ذلك راح مع موجة النوبة و الحضرة اللتين فرّختا موجات متعاقبة من التصحّر، و كنت للأسف من أبطالها … بل زدت عليها ذلك النهار بشاشيتك السوداء الغريبة، التي كانت أقرب إلى “الشنّة” الليبية !
و ثالثا، من قال لك إن تمثيلنا في المناسبات الدولية لا يكون إلا باللباس التقليدي أو بعض منه؟ … هذه البدعة التي يصرّ بعض متحذلقينا أن يفرضوها بالقوة على أنها اعتزاز و أصالة و وطنية إلخ … و هي عقدة متخلفة لم تنبت إلا في رؤوس بعض دول إفريقيا جنوبي الصحراء، أو أقطار الخليج التي عندها مشكلة هوية مع أغلبية سكانية من مهاجري آسيا … و على العموم فقد جعل ذلك منها محل سخرية في المحافل، و ها قد بدأ بعض عقلائها في التخلي عنه … الهوية و الوطنية تكونان في الأفعال، في المواقف، في عزة النفس، في العمل، في الفتوحات العلمية و الفكرية و الفنية، و ليست في ذلك الفولكلور الجالب للتعجّب لا للإعجاب … تماما مثل سبحة التديّن الكاذب، أو “سيجار” الثراء الزائف بمال الآخرين …
قلت الوطنية الحق تكون في تقديم عمل معجز ملهم يفحم الآخرين فماذا قدم السيد بوشناق؟ … ثلاث وصلات الأولى و الثانية لحْنان تعيسان باردان في هذا الشتاء، مع فرقة صغيرة مفككة مشقشقة كفرق المدارس … أما الوصلة الثالثة فخليجية قديمة له، و هي من تأليف أمير لإحدى الإمارات العربية المتحدة، منظمة الدورة … يا ليل يا عين … أو بالأحرى يا زاد جنوني … يعني من لحيتهم (أو لحيتنا) تفتل شكالا … و جبّة و عقالا … فأين الوطنية و الأصالة و الاعتزاز في كل هذا؟ تقول لنا إنه من باب رد الجميل للمضيفين، نقول لك لو كان ذلك في حفل خاص بشخصك و لكنك هناك تمثل تونس، حضارة و حداثة و تنويرا … و لا حاجة للإمارات إلى مغازلتك و هي قادرة على شراء “ستروماييه” نفسه لو أرادت … و قد تقول إنك تثبت لهم قدرتك على غناء كل شيء، و هم قد يجيبونك في سريرتهم بأنه أحرى بك أن تأتي بإنتاج مستوحى منك و من البلد الذي جئت لتمثيله … و إلا ما كانوا دعوْا لمعرضهم 192 دولة، و اكتفوا بدولة واحدة هي دولتهم، يغني لها المغنون و يمدحها المدّاحون …
لك الله ثم لك الله يا تونس … مات فنّك و دُفن أهله و لم يبق منهم سوى اسم واحد يملأ البرّ و البحر و الجوّ … حتى عبد الوهّاب في عزّه لم يفعل هذا و هو مطرب الملوك و الأمراء … اليوم صار عندنا واحد أحد، للملوك، للأمراء، للرؤساء، للوزراء، للسفراء، للخبراء، للشرفاء (متاع 85)، للطُلَقاء … مدَح الزعيم (“أنت” الجود أنت الكرم، و بإصبع الإشارة أيضا)، و مدح من جاء بعده (“معًا، معًا، معًا” ذات حملة) … و مدح من جاء بعدهما، و هو يشكرك على قبلة الجبين و باقة الورد (التي في العادة يقدمها المتفرج للفنان لا العكس) و يقول لك: “وينك توة؟” … ثم مدح أخيرا صاحب التشكيبة الأخيرة … قيسون راعي الفنون، كما قال عنه منذ مدة قليلة …
كلّ حرّ في مواقفه و تقلّباته … فقد قال سياسي قديم عن أحد خصومه: “هو ليس ناعورة رياح، بل هو الرياح نفسها في سرعة دورانها” … و لكنّ ترجمة ذلك إلى مكاسب و منافع على حساب الغير هو ما يزعج قليلا … و خاصة عندما ينتقل الامتياز بالوراثة من السلف إلى الخلف، و ها أننا فتحنا فرعا في الإخراج التلفزيوني و السينمائي … يبدو أنه سيواصل الانتفاع بذات الريْع و ذات الاحتكار … و سيبقى هذا الطير فوق رؤوسنا، إلى أن يرث الحيّ الدائم الأرض و من عليها …