تابعنا على

جلـ ... منار

جنوب إفريقيا إذ تخوض أبرز معارك العدالة في لاهاي

نشرت

في

شكّل البثّ المباشر لجلسة محكمة العدل الدولية التي رافع فيها وفد جنوب إفريقيا ضد الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، حدثاً استثنائياً في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تاريخ القانون الدولي. وعبّر كذلك عن تبدّل جذري في تموضع الدول تجاه المؤسسات والمعاهدات والمواثيق الإنسانية، الكونية نظرياً، التي انبثقت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

<strong>زياد ماجد<strong>

ويمكن التوقّف عند أربع مسائل أثارها الحدث الجلل في مقرّ المحكمة في لاهاي.

المسألة الأولى هي تلك المتعلّقة بالحرب نفسها وبالتوحّش والتدمير وكثافة النيران وتوظيف التكنولوجيا الأكثر تطوّراً لإحداث أكبر أضرار بشرية ومادية ممكنة في رقعة جغرافية صغيرة ومحاصرة ومقصوفة جواً وبراً وبحراً، وفي مدّة زمنية محدودة، على نحو لم نشهد له مثيلاً في العالم منذ عقود، إن لم يكن منذ العام 1945. وقد وصّف الحقوقيّون المترافعون ضمن الفريق الجنوب إفريقي الحرب هذه، لجهة انتهاكاتها الخطيرة لاتفاقية منع الإبادة الجماعية ونتائجها الميدانية والخسائر الفادحة التي أنزلتها بالفلسطينيين ومقوّمات حياتهم، بأسلوب شديد التكثيف والدقة في استعراض المعطيات وتفصيلها.

كما بيّنوا أن الانتهاكات المذكورة حُرّض عليها وجعل حدوثها ممكناً المسؤولون الإسرائيليون الأعلى شأناً، من رئيس الدولة إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير الأمن القومي ووزير المالية والعشرات من المسؤولين السياسيين والعسكريين، وصولاً إلى الجنود المُحتفين في الميدان بقتل الفلسطينيين وتدمير عُمرانهم. وهذا يؤكّد نيّة الإبادة ثم ترجمتها إلى عمليات تصفيةٍ وجرحٍ لعشرات الآلاف من المدنيّين وتجويع وتهجير لمئات الألوف وتدميرٍ ممنهج لغزّة ومستشفياتها ومؤسساتها الحياتية والخدماتية. ووضعوا كلّ ذلك ضمن تحقيب لمسار تطوّر الأمور قبل الحرب وخلالها.

بهذا المعنى، شهدنا في أعلى محكمة دولية انقلاباً حقوقياً وضع الإسرائيليين في موقع المتّهمين بالإبادة، ملزمين بتبرير أفعالهم وأقوالهم، أمام العالم بأسرِه الذي بوسعه الاستماع إلى كلّ ذلك من دون رقابة، على نحو لم يتعرّضوا له مرّةً في تاريخهم، إذ ظلّوا “فوق القانون”، يُطلّون بغرور على وسائل الإعلام ويتصرّفون بلا مبالاة كاملة تجاه محاوريهم. كما شهدنا عرضاً قانونياً متماسكاً يشرح (بلا مقاطعات معهودة) السياق التاريخي الذي وقعت فيه الأحداث الأخيرة وكيف تولّدت من ثقافة احتلال واستيطان وتمييز عنصري وحصار واستهتار بالقوانين الدولية دفع ويدفع ثمنها الشعب الفلسطيني.

المسألة الثانية تتعلّق بجنوب إفريقيا ذاتها كمندوبة للفلسطينيين في هذه المواجهة القضائية، وما تمثّله سياسياً ورمزياً في عالم اليوم. فالدولة التي خاض شعبها معارك ضد الكولونيالية ثم نظام التفوّق الاستيطاني الأبيض “الأبارتهايد” وانتصر فيهما بقيادة نلسون مانديلا المُتحرّر من السجن ليُنتخب رئيساً، تخوض اليوم أبرز معركة قانونية لوقف إبادة جماعية تنفّذها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

ولا شكّ أن التذكير بالتحالف السياسي والتعاون الأمني والعسكري والاقتصادي الوثيق الذي ربط إسرائيل بنظام الأبارتهيد الجنوب إفريقي على مدى عقود وللحظة سقوطه من جهة، ومشهديّة المواجهة القضائية والتضاد بين التنوّع والتعدّد الثقافي والعرقي والديني اللذين تجسّدهما جنوب إفريقيا، والانتقاء والتماثل وعنجهية العنصرية التي تجسّدها النخبة الإسرائيلية، هذين التذكير والمشهدية، يُفسّران بعض أسباب الاهتمام المُواطني العالمي الاستثنائي بما يجري، ومقدار غيظ الإدارات الأمريكية والأوروبية منه، وارتباكها تجاهه وتعليق الناطقين باسم بعضها عليه بطريقة مبتذلة ورقيعة.

والمسألة الثالثة ترتبط بتبدّلٍ في هويات المدافعين عن القانون الدولي الإنساني اليوم، الذي يُريد ورثة المبادِرين الغربيّين إلى تصميمه كشأن إنساني بعد الحربين الكونيّتين، “استعادته” وجعله أداةً يحتكرون استخدامها في الجغرافيا التي يقرّرون وفي التوقيت الذي يرون وحدهم وجوبه، وفق استثناءات يفرضونها بدورهم، وغالباً ما تتقاطع في ما يخصّ إعلاء إسرائيل عليه وحمايتها من تبعات انتهاكاتها المتكرّرة له.

فأن تنتزع منهم جنوب إفريقيا مبادرة اللجوء إليه، وأن تناصرها في ذلك أمام محكمة العدل الدولية أو تجاه المحكمة الجنائية دول مثل البرازيل وبوليفيا والشيلي وبنغلاديش وسواها، وتطالب بتطبيق هذا القانون ومعاييره ومواثيقه على إسرائيل التي كرّروا في الآونة الأخيرة دعمها وتغطية جرائمها، فالأمر مدعاة تفكير في احتمالات انتقال فعل السهر ـ ادّعاءً أو واقعاً ـ على السلام العالمي وسيادة الحقّ والقانون في العلاقات الدولية من واشنطن ولندن وباريس وبرلين إلى جنوب إفريقيا والبرازيل وغيرهما من ديمقراطيّات الجنوب الصاعدة سياسياً واقتصادياً.

المسألة الرابعة تتّصل بما يمكن توقّعه قانونياً من المحكمة بعد الدفاع الإسرائيلي الذي سعى إلى التشكيك في أمرين: أمر حدوث الإبادة في غزّة والتحريض الرسمي عليها، وأمر صلاحية الشكوى الجنوب إفريقية ذاتها.

ويجوز القول في ما يخصّ الأمر الثاني أن الحجّة الإسرائيلية بانعدام مشروعية الشكوى إذ أن لا “خلاف” ثنائياً بين إسرائيل وجنوب إفريقيا أو لا تبادليّة في هذا الخلاف تستدعيها، ولا استنفاد لسُبل بتّ الخلاف إن وُجد عبر القنوات الديبلوماسية قبل اللجوء إلى المحكمة، حجّة ساقطة. فجنوب إفريقيا تحرّكت بعد أسابيع من بدء الحرب وتحوّلها بحسبها إلى عملية إبادة حذّرت منها أكثر من مرّة في الأمم المتحدة وعبر الطلب إلى مدّعي عام المحكمة الجنائية التحقيق في الجرائم المرتكبة في سياقها وفي مراسلات مباشرة مع تل أبيب. وهي بالتالي تحرّكت بعد كلّ ذلك وفق ما تُمليه اتّفاقية منع الإبادة التي وقّعت عليها.

ويُرجّح أن تُصدر المحكمة بالتالي قراراً في غضون أسبوعين يطلب وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية “خشية مخاطر حدوث الإبادة”. ويبدأ بعد ذلك، في ما يخصّ الأمر الأول، النظر في مسألة الإبادة نفسها، إن لجهة وقوعها أو لجهة التحريض على تنفيذها. ويُتوقّع هنا أن تأخذ المداولات والردود وقتاً طويلاً، قد يصل لسنوات قبل البتّ بشأنها، إذ أن القول بحدوث “إبادة جماعية” محفوف بالمحاذير وشديد التطلّب لجهة الاثباتات ولجهة تمييز “الإبادة” عن “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” (بما فيها “التطهير العرقي”). وقد بدا جلياً أن الوفد القانوني الممثّل لإسرائيل بدا معنياً بشكل خاص بنفي “مأسسة” أو “رسمية” الدعوات للإبادة (التي أشارت جنوب إفريقيا إلى تكرارها على أعلى مستوى في إسرائيل)، ذلك أن نجاحه في ذلك يُطيح بمبدأ شارطٍ للقول بحصول إبادة، وهو إثبات النيّة أو التحريض أو الدعوة السافرة للتنفيذ.

بمعنى آخر، وفي مفارقة فظيعة، يبدو الإسرائيليون قابلين باعتبار بعض ارتكاباتهم في ظلّ ما يدّعون أنه
“دفاع عن النفس” أو “حرب على الإرهاب” جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية لتجنّب الحديث عن “الإبادة”
في موازاة عمل محكمة العدل الدولية الذي سيتواصل لفترةٍ إذن، سيكون مهماً ضغط الدول الخمس التي تحرّكت رسمياً، أي جنوب إفريقيا وبوليفيا وجيبوتي وبنغلاديش وجزر القمر، مدعومةً من الشيلي ومن مئات الأفراد والجماعات والتحالفات الحقوقية، طالبةً من المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية تحمّل مسؤولياته والتحقيق في الجرائم الواقعة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ففلسطين انضمت إلى معاهدة روما، وعمل المحكمة الجنائية متاحٌ بالتالي قانونياً فوق أراضيها، وسيكون له إن حصل أثرٌ مهم على مسار القضايا الحقوقية دولياً، وليس فقط فوق جغرافيا غزة.

في الخلاصة، يمكن القول إن ما شهدناه على مدى يومين في لاهاي، حدث تاريخي، سيبقى وقع ما تُلِيَ فيه ومشهديّته ماثلَين أمامنا وأمام أجيال ستستعيده لتدرس أهمّيته وتأثيره على فلسفة القانون وعلى منظومة العلاقات الدولية وتوازناتها. وسيقى ماثلاً أيضاً ليذكّرنا ويذكّر سوانا أن نساءً ورجالاً من جنوب إفريقيا (وإيرلندا وبريطانيا) وقفوا يوماً بتنوّعهم وعِلمهم وقِيمهم ونُبل كلماتهم وتمثيلهم لمئات ملايين البشر على امتداد العالم، ليدافعوا عن مُستضعفين في فلسطين ويتصدّوا لآلة قتلٍ إسرائيلية همجية مدعومةٍ من حكومات أمريكا وألمانيا وإنكلترا وفرنسا، وُمتواطئٍ معها من حكوماتِ دولٍ أُخرى عديدة. وهم بذلك، حفظوا للإنسانية ولقيمة العدالة الأسمى موقعاً، لا شكّ أن كثراً من بعدهم سيدافعون عنه رغم الصعاب وغطرسة الأقوياء.

ـ عن “القدس العربي” ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب وأكاديمي لبناني

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!

نشرت

في

صبحي حديدي:

بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.

صبحي حديدي

ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.

ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.

ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.

في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.

وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.

كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.

وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!

والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.

وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

موجات

نشرت

في

وفاء سلطان:

مضى على وجودي في أمريكا 36 سنة.

لم أدخل يوما مطعما إلا وتركت للنادلة بخشيشا يفرح قلبها وفوق تصورها.

وفاء سلطان

معظم الذين يخدمون بالمطاعم في أمريكا هم طلاب جامعات ليسدوا مصروفهم، فلقد اشتغل أولادي في المطاعم أثناء جامعاتهم وأعرف كم كان البخشيش هاما بالنسبة لهم.

إلا البارحة قررت أن لا أترك لها سنتا، لكن زوجي رفض القرار وقال كعادته: حرام!

(نعم هو ألطف مني في هكذا مواقف)

أوقح نادلة رأيتها في حياتي، تخبط الصحون على الطاولة وكأنها خرجت لتوها من معركة مع زوجة أبيها.

ضبطت أعصابي بشق الأنفس

لقد اعتدنا ان نفتح حديثا مع من يخدمنا في المطاعم حتى نعرف حياته من ألفها إلى يائها،

ولكن هذه النادلة لم تترك لنا مجالا لنقول: شكرا!

نحن نذهب إلى المطعم ليس من أجل الأكل فقط، بل لتغير الجو وتحسين النفسية، وعندما تقارب الفاتورة المائة دولار وتلقى هكذا معاملة تصاب بالإحباط

حسب رأيي خدمة الزبائن في أمريكا أفضل من أي بلد في العالم زرته، ولنفس السبب لم أحب دول أوروبا!

القاعدة العامة في أمريكا تقول: يجب أن تتعامل مع الزبون كما لو كان دوما على حق!

لو كانت ابنتي محلي لقالت: ماما ارجوكِ سامحيها، لا أحد يعرف كيف كان يومها

هذا صحيح، ولكن على من يشتغل في المرافق العامة وخصوصا المطاعم أن يكون لطيفا تحت أي ظرف!

الحياة لا تعاش إلا ببعض التنازلات، وعندما يتعلق الأمر بعملك يجب ان تتمتع ببعض القدرة على إخفاء آلامك الشخصية ولا تنقل طاقتك السلبية لغيرك!

طاقة كل إنسان تشدّ أو تحجب عنه رزقه، وذلك حسب طبيعتها

كنا ندفع على الأقل 20٪؜ من قيمة الفاتورة، لكن بعد تراشق بالنيران وشد شعر ترك لها زوجي مبلغا، وأنا أتمتم: يا خسارة

فالسلوك الذي يُكافأ يتكرر!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

أناقة ما بعد السبعين

نشرت

في

وفاء سلطان:

في الثمانينات من عمرها.

أحنى الزمن ظهرها قليلا، لكن روحها مازالت تعانق السماء.

وفاء سلطان

التقينا في المكان المخصص لعربات التسويق على باب أحد المحلات.

وبينما هي تسحب عربتها التقت عيوننا فصبّحت علي.

رددت التحية، وتابعت: تبدين جميلة جدا، إذ من النادر أن ألتقي بامرأة بهذه الأناقة والترتيب!

فعلا الحياة الأمريكية العملية أنستنا الكثير من أصول الأناقة والتزين.

إلى حد ما، تعجبني هذه العفوية في أمريكا،

فلقد خففت عنا نحن النساء مهمة التبرج كل صباح، وزادت ثقتنا بأنفسنا.

لكن من ناحية أخرى، من الجميل أن نحافظ على أناقتنا ومظهرنا طالما لا نبالغ

نعم لا نبالغ، فلقد أصبحت الكثيرات من النساء اليوم نسخا متكررة من لعبة باربي:

قشرة من الخارج وفراغ من الداخل

المهم، أشرقت ابتسامتها حتى أضاءت وجهها المهندس بطريقة فنية غير مبتذلة، وقالت بعد أن وضعت يدها على كتفي:

حبيبتي كل سلوك تتقنينه عادة، فمتى تعلمتِ عادة تصبح طريقة حياة

ثم تابعت:

منذ سنوات مراهقتي لا أخرج من البيت حتى أتأكد من أنني أسر الناظر إليّ، فمظهرنا الخارجي يعطي الانطباع الأول

أكدت لها أنها فلسفتي كذلك، وتمنيت لها يوما جميلا

أكمل القراءة

صن نار