موضوع يستفزّني دائما … أن يأتي مذيع من خرّيجي السنين الأواخر، سنين الجهل الحاصل على شهادة عليا، و يسأل مواطنا من عاصمة ولاية ما، عن تقاليد تلك الولاية في رمضان مثلا أو العيد الصغير … و يسترسل السائل و المجيب بعد ذلك لا في الحديث عن عموم الولاية بمدنها المختلفة، بل عن مركز الولاية يبدؤون به و ينتهون و لا عزاء للبقية …
المذيع العلاّمة لا يعرف على سبيل المثال أن ولاية باجة ليست فقط مدينة باجة، بل فيها مدن في عراقة حاضرة اللقالق وربما أرسخ منها و أطول عمرا … يركّز على باجة (و هي كلها جمال و خير بركة) و ينسى مثلا تبرسق التي لا يكاد يعرف معمارها العتيق و أزقتها السحرية و جنائنها المعلّقة و أسوارها الأثرية و عمرها الذي يناهز الخمسة و عشرين قرنا، أحد تقريبا … كما ينسى تستور و أندلسييها الكثر و حارة يهودها و جامعها ذا الساعة العجيبة و جبنتها الشهيرة المولودة في حقول السلوقية و ما تركته قرطاج و روما في عين تونقا … و ينسى خاصة مجاز الباب “ممبراسّا” القيصرية بقناطرها الحجر و مشاوي عيدان و سكانها المواطيس (جمع ماطوسي) و فخامة مجردة الذي ينساب بين أحيائها و يتحول إلى ما يشبه نهر السين، خصوصا عندما يكون العام ممطرا عندنا و عند جارتنا الجزائر بلد المنبع …
مشكلة دولتنا التونسية أنها في حربها على الجهويّات، قتلت الجهات … في فرنسا لكل جهة و مدينة و قرية خصوصيات يقع إفرادها و التركيز عليها و تحويلها إلى ماركة عالمية … الشمبانيا اسم لجهة في الشمال الشرقي، البوردو أصبح اسما لأنواع أصيلة من النبيذ و حتى لدرجة من درجات اللون الأحمر، أجبان “روكفور” و “كاممبير” و “كونتيه” تعود أصلا إلى مناطق اشتهرت بها و سجلت باسمها … طبعا دون نسيان “ماء” منطقة جافيل، أو صابون مرسيليا، أو كرة نانت، أو قبعة بلاد الباسك، أو خزف ليموج، أو رسوم إيبينال، أو مؤتمر تور، أو نبيّة لورد …
أما في بلادنا، فقد كان التقسيم الإداري شكلا من أشكال إخراس الأصوات و الثقافات و الهويّات الجذّابة التي كان يمكن أن تكون روح سياحتنا بأضعاف أضعافها لا سياحة الثلاثة “إس” … هويات و مذاقات و ثقافات ألفية يزخر بها شعبنا المتعدد و الموحد في آن … لم نكن في حاجة إلى العصا لكي نكون على كلمة واحدة، و الاستعمار مباشرة بعد ماي 1881 وجد أمامه مقاومة وطنية من شمال البلاد إلى وسطها و جنوبها … كما خبر هذه الوحدة وحش الإرهاب حين حاول أن يستولي على مدينة نائية كبنقردان ظنها منسلخة عنا بحكم تهميشها التنموي … فلقنته و لقنت الجميع درسا كشف عن معدن أولئك الأحبة و قيمة علمنا الأحمر فوق دورهم و هاماتهم …
قلنا التقسيم الإداري أراده الاستعمار عسكريا بوليسيا و وضع به حاميات لتمشيط البلاد كل 50 كم تقريبا … و على كل حامية عيّنت سلطة الاحتلال مراقبا مدنيا يرافقه “اخليفة” محلّي و اختارت لمواقعها مدنا تشرف على ما جاورها و تتسمّى كامل الجهة باسم تلك المدينة … و استمرّ ذلك الحال مع الدولة الوطنية التي رأت في التقسيم أداة ناجعة لمراقبة البلاد و تيسير حكمها … و لكن ذلك ولّد تناقضات من أغرب ما يكون، فعند التطرّق إلى مدن مساكن و جمّال و سلقطة مثلا، ننسبها تباعا إلى “جهات” سوسة و المنستير و المهدية، و الحال أن الجهة واحدة و اسمها الساحل … و نفس الكلام يقال عن جهة الشمال الغربي لا عن “أربع” جهات هي الكاف و جندوبة و باجة و الكاف …
هذا هو الخطأ الذي يقع فيه مذيعون على أهل سياسة على أي ملحق إداري يكتب مراسلة إلى رؤسائه في العاصمة … الخطأ الثاني في صلب السلطة نفسها، فهي التي تسببت في هذا التعميم بإطلاق أسماء مدن على ولايات بكاملها و أنتجت هذا الخلط المريب … نعود إلى البلاد المتحضرة حيث أولا يفصلون بين الجهة (ريجيون، مثل فرنسا) و الولاية أو المقاطعة (ديبارتمون) … و ثانيا تتسمى هذه المواقع بحسب معطيات تاريخية و جغرافية تجمع أولئك السكان ضمن كيان طبيعي دون تعسف … فولاية مرسيليا اسمها “بوش دي رون” أي مصب نهر الرون، و ولاية “ليل” تسمى الشمال، و ولاية سانت إيتيان اسمها “لوار” و هكذا …
بل تعمد فرنسا، و أكثر منها تمييزا إيجابيا الولايات المتحدة، إلى تنصيب عاصمة الإقليم أو الولاية لا في المدينة الأكبر بل في مدينة صغيرة أو متوسطة حتى تجد فرصتها في التنمية و يعمل مجلس الولاية بعيدا عن صخب و أزمة مرور العواصم الضخمة … أما نحن، فإننا نأتي بمدينتين متنافستين تاريخيا، و نكسر شوكة الأولى بالثانية، و نضعها تحت حذائها، و نوجه ميزانيات التنمية إلى تلك المدينة التي يكون لها نصيب الأسد، و ندعم ناديها الرياضي على حساب البقية … و افهم وحدك ما ينجرّ عن ذلك من نعرات، آخرها ما يحدث الآن بين جزيرة جربة و العاصمة مدنين …