حاولتُ في الورقة الماضية سَرْد بعض الحكايات والقصص الهادفة والقابلة للتوظيف في الدّرس والتكوين بصورة عامة، لتناول قضايا وقيم كونية عديدة كم نحتاجها وبقوّة في مجتمعاتنا التي جرفتها سيول الحداثة دون كبير حصانة تُذكر، أو كبّلتها سلاسل الماضي دون بصيرة نقديّة تُلغي الغثّ وتحتفظ بالأجدر.
ولمّا بدأت التفكير بمحتوى الورقة الثانية التي تُكمّل الأولى أو تستمر في نفس نسقها، قلتُ في نفسي لِمَ البحثُ في حكايا من التراث الإنساني أو الأساطير الإغريقية والحال أن مسيرة كل واحد فينا تعُجّ بعشرات القصص والأحداث الجديرة بتقاسمها وتداولها، لما فيها من قيم رمزية تصلح أن تكون محاور تؤثث فترات الصمت الكسول في مساحات التكوين ؟ فقررت أن أستحضر بعض الأحداث التي عشتها شخصيا مع تلاميذ ومتكوّنين في فترات ماضية، ولكن مازالت تتمتّع حسب رأيي ببعض الوجاهة لكي تُطرح مجدّدا.
الحكاية الأولى : أيّهما أجمل، المرأة الأولى أم الثانية ؟
في حصة من حصص درس الفرنسية مع السنوات الثانية أو الثالثة ثانوي خلال ثمانينات القرن الماضي، وكان المحور الذي نشتغل عليه في تلك الفترة هو الحب والصداقة، رُحت أفتّش في طيّات مجلات فلسطين الثورة وصامد واليوم السابع وبعض أعداد مجلات الهدف والحرية الفلسطينية التي كانت تصلنا تحت المعاطف من الجزائر الشقيقة. وجدتُ ضالّتي بعد جهد دام ساعات طويلة (تعوّضها اليوم مجرد نقرة أو نقرتين على محركات البحث) واخترتُ صورتين لفتاتيْن في ريعان شبابهما، قُمت بتكبيرهما لدى صديقي الشادلي المصوّر الذي حاول جاهدا معرفة الغرض من الاحتفاظ بهاتين الصورتين… فلم يفُز بأكثر من وعد بأن أفسّر له مآلهما حول قهوة مُنشّطة للذاكرة يُعدّها بكثير من المودّة سي محمود، الرجل اللطيف والمؤدّب بالمعهد الذي كنت أدرّس به وكان سي الشادلي قيّما به أيضا (بالإضافة إلى هوايته كمصوّر).
حملت صوري معي وقبل انطلاق الدرس، عرضتُ على تلاميذي أن نقوم بحصة انتخابية نختار خلالها برفع الأيدي وبكل حرية بين الصورة أ والصورة ب بناءً على مقاييس الجمال “العفويّة” المعهودة. أمسكت صورة الفتاة الأولى بيدي اليمنى (أطلقنا عليها الصورة أ) وصورة الفتاة الثانية بيدي اليسرى (وأطلقنا عليها الصورة ب) وسألتهم :
من يُصوّت لفائدة الفتاة أ ويعتبرها الأجمل يرفع يده. النتيجة : لا أحد ! هل أنتم متأكدون ؟ Oui monsieur
والآن من يُصوّت لفائدة الفتاة ب، أي من يعتبرها أجمل من الأولى ؟ 37 تلميذا إناثا وذكورا يرفعون أيديهم بحماس شديد.
صمتُّ قليلا لاستحثّ فيهم السؤال… حتى تعالت أصواتهم : هي وبعد مسيو ؟؟ من تكون هاتان الفتاتان ؟
قلت بشيء من التأثّر غير المتكلّف أن الفتاة الأولى التي لم يصوّت لفائدتها أحد هي سناء يوسف المحيدلي الملقّبة بعروس الجنوب والتي كانت تنتمي إلى المقاومة الوطنية اللبنانية، وهي التي فجّرت سيارة بيجو 504 كانت تقودها عند حاجز عسكري إسرائيلي بجنوب لبنان في عملية انتحارية أدّت إلى مقتل ضابطين صهيونيين وجرح جنديين آخرين وكان ذلك في أفريل 1985.
تململ كبير داخل قاعة الدرس وبدايات احتجاج سرعان ما أخمدتها حتى أُنهي كلامي.
أما صورة الفتاة الثانية والتي صوّتّم لفائدتها بالإجماع، فهي لفتاة إسرائيلية إسمها إيستر رائيف ليبائي، ضابطة في جيش التساهال الصهيوني وتمارس رياضة السباحة في نفس الوقت على أعلى المستويات…
تلى هذا التقديم جلَبَة حقيقية داخل الفصل قطعها صوتُ تلميذ وقف في كامل سُخطه وشجاعته وإحساس بنوع من “الغُلب” والخذلان :
مسيو… غلّطتنا مسيو، يلزم نعاودو الانتخاب !!!
أجبتُه مُطمئِنًا كونها مجرد لعبة مُفبركة ذات غاية بيداغوجية صِرفة في علاقة بموضوع درسنا اليوم وهو : “هل نعتبر الحب والإعجاب مجرد شعور بالمتعة الذاتية عند تذكّر أو مُجانبة أو مشاهدة شخص نحبّه، أم هو اختيار وحكم يلخص هذا الذي نُحبه وله قيمة ما في عقولنا وقلوبنا”.
ومن أهم الاستنتاجات التي توصّلنا إليها معا ودون أي تعسّف أن :
أولا : الجمال الذي كنا بصدد تقييمه هو جمال “بلاستيكي تشكيلي” بالمعنى الفني للكلمة، دون معانٍ أخرى مُضافة إليه، ويبقى جمالا بشريا طبيعيا مثله مثل جمال الأشجار والأودية والأزهار والأمطار.
ثانيا : “العقل يتكلم ويبرهن بينما الحب يغني وينشد” كما يقول ألفريد دي فينيي.
ثالثا : الجمال نسبي ومرتبط عضويا بالمعنى أو القيمة التي نضفيها على الشخص/ الشيء الذي نحب (لذلك على سبيل المثال كل واحد فينا يعتبر أن أمّه هي أجمل نساء الكون).
رابعا : الإيديولوجيا والانتماء هما مصفاة لتكرير مواقف البشر جميعا ومعالجتها ويصعب جدا أن تكون تقييمات البشر لما حولهم متخلصة تماما من تلك العيون والجداول الخفيّة التي تروي كياننا وتسقي دواخلنا.
والاستنتاج الطريف النهائي هو أننا لو وُلدنا في سيبيريا أو الألسكا أو الغروينلاند لكنّا نتنقّل بواسطة عربات تجرّها الكلاب ولكان الناس يُقبّلون بعضهم البعض عن طريق التلامس بالأنف خوفا من التصاق شفاههم من شدّة البرد الذي يصل إلى 50 درجة تحت الصفر… بما يُبرهن على كوننا أبناء سياق بشكل خالص، وذلك في قيمنا وأخلاقنا وعلاقاتنا وتديّننا ومقاييس الجمال لدينا.
الحكاية الثانية : موزار العبدولي، “التلميذ الفنّان” يُحال على مجلس التأديب
ذكّرتني حادثة التلميذة بمعهد الفنون بالعمران نور عمّار التي تمّ طردها مؤخرا على خلفية كلام توجّهت به إلى أحد أساتذتها على صفحات الويب، بتلميذي موزار العبدولي الذي درّسته في سنّ السابعة عشرة من عمره تقريبا، وكان تلميذا متميّزا ومتأثّرا بشكل ما باسمه الموسيقي، مزهُوّا بوسامته، فكان يرتدي ملابس فاقعة اللون شيئا ما ويعتني بتسريحة شعره في غير تفسّخ أو ابتذال لكنه كان مؤدّبا ولطيفا جدا ويحصل غالبا على علامات مقنعة في اللغة الفرنسية (بلغني السنة الماضية أنه يقيم حاليا بأحد البلدان الأوروبية).
دُعيتُ ذات يوم من قِبل الإدارة أن أحضر مداولات مجلس التأديب، وكان تلميذي موزار من التلاميذ المُحالين على المجلس بموجب تقرير في شأنه حرّره القيم العام للقسم الخارجي مؤكّدا (في لغة مخفريّة بائسة) أن التلميذ المعني سيّء السلوك ويتطاول على شخصه ويرفض الامتثال إلى تعليمات الإدارة. سألت صاحب التقرير عمّا حدث بالضبط مع موزار… فذكّرني بأنه يُدرك جيدا مكانته لديّ (في استباق خبيث لتأويل دفاعي اللاحق والمتوقع عن موزار) وأكّد أن موزار كان يشدُّ سرواله بحزام عريض تُزيّنه مسامير لامعة وتتوسّطه حلقة مُذهّبة دائرية لشدّ انتباه التلاميذ الآخرين وبثّ الفوضى داخل المعهد. (وكاد يُضيف كونه كان يُعدُّ لتنفيذ عمل إرهابي خطير !)
دافعتُ بكل ما أوتيت من حضور رمزي عن موزار وحاولت الإقناع بأنه من الطبيعي أن يعتني الشباب بمظهره وأن يحاول لفت الانتباه والتباهي وحتى التنافخ …. واعتبرتُ ساعتها أنني حققت انتصارا جزئيا لأن القيم العام لم يستطع فرض عقوبة الطرد النهائي ولا عقوبة الــ 15 عشر يوما التي اقترحها المدير … فرضنا، مجموعة الأساتذة الحاضرين، أن لا تتعدّى العقوبة 7 أيام… وهي أدنى عقوبة يمكن أن تُسلّط عليه لأن عقوبة الطرد بثلاثة أيام يمكن أن يتخذها مدير المؤسسة دون دعوة المجلس إلى الانعقاد.
حكاية نور عمّار وحكاية موزار عبدولي هما من نفس الجنس تقريبا وتعكسان عقلية متحجّرة ترفض أي انزياح في علاقة بالقيم والأخلاق السائدة، وتُكرّس فكرة أن الفضاء المدرسي هو فضاء قُدُسي يتعيّن فيه على “الجُموع” الانصياع لأوامر الشيوخ وتعليمات الكبار.
كتبتُ عديد المرّات أنني لست من دُعاة “الحْنانة الفارغة” وأن التلميذ محمول على السلوك السويّ دون تربية على الخنوع ومعانقة معاني الحرية والانعتاق دون تشجيع على التهوّر والابتذال. ولكن لديّ يقين أنه ليس ثمة من تجاوز أو سوء سلوك أو فعل تلمذي ما، يُبرّر كسْر تلميذ والدفع به نحو مسارات مجهولة التداعيات بالطرد أو الإهانة أو الإذلال أو الشتم أو التحقير. فمن الطبيعي أن يُخطئ الشاب أو الشابة (وأن يتم التوقّف حتما عند ذلك الخطأ بشكل مرن ومتبصّر) ولكن ليس من حقّنا نحن الكبار (أساتذة ومعلمين وإداريين ومتدخلين متنوعين في الفعل التربوي) أن نُسيء التقدير ونخطئ.
تلميذ يُحرم من الدرس مؤقتا أو بصفة نهائية هو جُرم تقترفه المدرسة (بكل من فيها) التي لم تقدر على احتضان أبنائها بامتيازهم ومثابرتهم وأخطائهم وانحرافاتهم أيضا قبل أن يكون مسؤولية التلميذ نفسه.