الحَكْي بصورة عامة ممتع والاستماع إلى الحكايات مُبهج ولكن بشرط أن يكون الرّاوي خفيف الروح ويتملّك القدرة على شدّ انتباه سامعيه، وأن تكون الحكاية حاملة لمعنى ومُروّجة لقيمة ويمكن أن تُشكّل منطلقا لتعميق الخوض في قضايا انسانية كبرى مثل الحرية والحب والعمل والتفاؤل والأمل والتعايش …
القصص والحكايات تُضفي معنى وتُنتج مشاعر وأحاسيس وانفعالات وتُمتع السامع ويسهُل تقاسمها وتضع الأطفال (خاصة) في مواجهة جيدة مع أفكار جميلة وأشياء طريفة يكتشفونها لأول مرة وتفتح طريقا رحبا أمام التفكير “الفلسفي” حول قيم إنسانية إيجابية يجب غرسها في تربتنا …
أعتقد شخصيا أن أسلوب الحكي كمهارة بيداغوجية يكتسب في سياق التعليم والتعلّم قدرا كبيرا من الفاعلية والنجاعة التبليغيّة خاصة عندما يكون هادفا ومحبوكا ويختار له مؤدّيه نبرة مؤثّرة (بتلقائية صادقة وفي غير تلاعب بعواطف الناس كما يفعل دعاة الفتنة الدينية والتنمية البشرية) وأسلوب سرديّ مُحفّز يتوفر على قيمة تربوية أو فلسفية أو بيداغوجية مُضافة.
هذه بعض الحكايات التي جرّبتها شخصيا مع أطفال وكهول في سياقات تعليمية وتربوية مختلفة وكان لها في كل مرة تأثير إيجابي ومنافع تفوق بكثير حصص القصف النظري المملّ والاجترار الركيك لمضامين أوراق بيداغوجية اصفرّت وشاخت ولم يعد لها طعم ولا فائدة.
حكاية كسّار الحجارة : في قيمة التّنسيب وأهمية بذل الجهد وفق أهداف ومرامي
كان الكاتب والشاعر الفرنسي شارل بيغوي (توفي سنة 1914) في طريقه إلى مدينة شارتر، ومرّ برجل على حافّة الطريق بصدد تكسير الحجارة والعرق يتصبّب من كل جسده وكانت تبدو عليه ملامح التعب والنقمة والضّجر، وجهه شاحب وملامحه داكنة. توقّف شارل بيغوي وسأله بعد التحية : ماذا أنت فاعل يا رجل ؟
أجابه كسّار الحجارة : “كما ترى، أنا بصدد تفتيت الحجارة لا أكثر”، مضيفا في مرارة بارزة : “ظهري يؤلمني، أحسّ بعطش شديد، آخر وجبة أكْل تناولتُها مرّ عليها أكثر من ستّ ساعات، ولكنّني للأسف لم أستطع الحصول على ما هو أفضل من هذا العمل المّضني والأحمق”.
واصل المسافر سيره نحو وِجهته فمرّ برجل ثان يُكسّر الحجارة هو الآخر لكن حالته تبدو أفضل بقليل من الرجل الأول وثمة شيء من الهدوء والانسجام في حركاته. بادره بيغوي بالتحية والسؤال “ما هذا العمل الذي تقوم به سيدي ؟”
“أنا كسّار حجارة، هو عمل شاق كما تلاحظ لكنه يسمح لي يإعالة زوجتي وأولادي”…قبل أن يستردّ أنفاسه ويضيف في ابتسامة خفيفة “وعلى أية حال، أنا أعمل في الهواء الطلق وصحتي جيدة ومن المؤكد أن هنالك وضعيات مهنية أكثر ضراوة من هذه”.
تمنّى له شارل بيغوي حظا موفورا وواصل طريقه باتجاه شارتر فعثر على كسّار ثالث بملامح مختلفة تماما عن الأول والثاني. كان مبتسما ناشطا تحدوه حماسة وإقبال على مهمة تكسير الحجارة وتهذيب نتوءاتها وصقلها قبل ترصيفها. سأله الشاعر المسافر “ما هذا العمل يا سيدي؟” أجابه الحجّار الثالث : “ألا ترى، أنا بصدد تشييد كاتدرائية !”.
(تذوّق بهجة التفكير في تحقيق الحلم قبل تحقّقه إذ تُذيب آثار الأتعاب وتُزيل آلام المُكابدة).
وفي سياقنا التونسي، كنت أطلب من المستمعين أن يضعوا بدل الكاتدرائية بما شاءوا : مسجدا غرناطيا أو قصرا قرطاجيا أو مدرسة بمواصفات عالمية لأطفال مينة الطويرف.
أسطورة الكوليبري (أو الطائر الطنّان كما يسمّيه العرب) : ليس لأننا لا نستطيع أن نفعل كل شيء حتى لا نفعل أي شيء
الكوليبري عصفور غريب لأن الدّارسين يؤكدون أنه يتمتع بخاصيات نادرة جدا، فهو أصغر طائر في الكون ويستحوذ على كل الأرقام القياسية حيث يقدر على الطيران إلى الخلف عكس الطيور الأخرى ويستطيع جعل جناحيه يخفقان إلى حدود 200 مرة في الثانية، له إمكانيات ذهنية هائلة، يأكل 3 مرات قدر وزنه من رحيق الزهور.
ذات يوم (جرّبوا التوقّف أثناء الدرس وقولوا لتلامذتكم أو طلبتكم، أصمتوا قليلا، ثم قولوا لهم ما رأيكم لو أروي لكم قصة…؟ ولاحظوا جميع الأعين التي تتجه نحوكم ويصمت الجميع وتشرئب الأعناق ويشرعون في الاصغاء إليكم من الأعماق)… إذن ذات يوم تقول الأسطورة، يحكى أن حريقا ضخما شبّ في الغاب وكانت جموع الحيوانات هناك بصدد مشاهده النيران تلتهم أشجارها وأوكارها وجحورها ولكنها كانت في حالة وُجوم لا تُبادر بفعل أي شيء. في تلك الأثناء كان الكوليبري – أصغر طائر فوق الأرض- الحيوان الوحيد الذي ينتفض متنقّلا في حركة ذهاب وإياب لا تنتهي إلى غدير قريب من موقع الحريق ليعود في كل مرة ببعض القطرات من الماء ويسكبها على النيران علّها تنطفئ. تضايقت بقية الحيوانات وانزعجت، فقال له أحدهم…
جرّبوا عند هذا الحدّ فتح قوس لتُسرّبوا المعلومة التالية (قد يكون حيوان الكوالا الذي يرقد 22 ساعة في اليوم)… الضحكة المرحة مؤكّدة.
إذن قال له الكوالا مثلا، والسخرية تعلو محيّاه “ألا يكفيك هذا السّخف والجنون، أتعتقد حقا أنك تستطيع بواسطة هذه القُطيرات إطفاء حريق بهذا الحجم ؟”
أجابهم الكوليبري “بالتأكيد لا، ولكنني أقوم بنصيبي من الواجب“… وطار نحو البحيرة مرة أخرى.
حكاية كارل والندا. لا تفكّر بإمكانية الفشل وأنت تباشر مهمّة ما
كارل والندا هو رياضي بهلواني ألماني-أمريكي اشتهر بالمشي على الحبال المشدودة بين ناطحات السحاب وفوق شلالات نياغارا، وغالبا ما يكون ذلك من دون شباك للنجدة. توفي في سان خوان ببورتو ريكو في سن الــ 73 سنة أمام الملأ من علوّ شاهق يقدر بـ 37 مترا .
هذا البهلواني وهب اسمه لأثر متداول في علم النفس الاجتماعي وهو “أثر أو عقلية والندا”.
بعد وفاته، سألوا زوجته هيلين عما حدث مع زوجها وهو الذي تعوّد على قهر الأعالي والمحافظة على توازنه مهما اشتدت قوة الرياح العاتية.
أجابت هيلين بأن كارل كان طوال حياته وقبل تنفيذ مشيته الهوائية يُركز كل طاقته على استكمال مساره بنجاح وكان يردّد دائما أن مؤهلاته ورصيد تدريباته تسمح له بذلك. ولكنه في الآونة الأخيرة لاحظت تغيّرا كبيرا في سلوكه حيث أصبح متهيّبا في كل مرة، وأضحى تدريجيّا يعتبر أن السقوط وارد على كل حال وبالتالي عليه أن يركز كل جهوده وطاقته الذهنية لكي لا يسقط وليس لكي يمشي على الحبل…حتى سقط ومات.
ويُستعمل اليوم “أثر والندا” خاصة في التعبير عن قدرة الاستمرار في متابعة غايات إيجابية بتوظيف كامل الطاقة في تنفيذ المهمة المسطّرة دون الالتفات إلى الوراء أو التندّم على أحداث من الماضي. تماما كما كان كارل والندا في بداياته، كل طاقته وكل انتباهه متجهان نحو الهدف، نحو التقدم ولم يفكر قطّ في احتمال الفشل والسقوط. فالنجاح ينبع من إيمان أزلي هو : القلب المقدام لا يعرف المستحيل.