جور نار

خمسة انحرافات كُبرى دكّت أركان مدرستنا التونسية (الجزء الثاني)

نشرت

في

تحدّثنا في بداية الأسبوع الماضي عن تخلي منظومة التربية في بلادنا عن المسارات التدريبية والمهنية وبعث شبكة المؤسسات النموذجية كانحرافين تاريخيين ساهما حسب رأيي في تراجع أداء مدرستنا والقضاء (خاصة بالنسبة إلى القرار الأول) على أجيال بكاملها زُجَّ بها في مسارات تعليمية طويلة لم تكن مؤهّلة لمواصلة دراستها فيها.

<strong>منصف الخميري<strong>

وتهتمّ ورقة هذا الأسبوع بثلاثة قرارات أخرى لا تقلّ فداحة هي : تحرير عملية التوجيه المدرسي وقرار بعث الباكالوريا إعلامية وإسقاط منظومة المواد الاختيارية.

ثالثا : تحرير التوجيه المدرسي في ظل غياب أية سياسة وطنية في المجال

المقصود بتحرير التوجيه المدرسي، هو تخلّي الدولة عن دورها التعديلي في ضمان التوازن بين المسالك والشعب المدرسية على ضوء سياستها التشغيلية الوطنية، الخاضعة بدورها إلى تقييم توجهات سوق الشغل الوطنية والعالمية وتحليلها، وبالنظر إلى رؤيتها في رسم الأولويّات وضبط الحاجيات من الكفاءات والإطارات في مختلف القطاعات.

كان التوجيه المدرسي إلى غاية بداية الألفية الجديدة محكوما بنسب وطنية صارمة لا يجب تجاوزها أو النزول دونها في إطار معادلة صعبة تتمثل في إعطاء الأولوية للرغبة التي يعبر عنها التلميذ وأولياؤه، شريطة أن لا يتسبّب ذلك في تضخّم شُعب واندثار أخرى… قبل أن يتمّ التخلي عن هذه النسب الوطنية وترك مسالك التوجيه “تشحن حمولتها” بشكل تلقائي دون رقيب أو حسيب حسب أهواء التلاميذ وعائلاتهم والأعداد التي يوزّعها الأساتذة في المواد المركزية، وهي عادة ما تكون مغشوشة لأنها صُنعت في أغلبها داخل مستودعات موازية مُعدّة للدروس الخصوصية.  

تبدو النيّة سليمة والمقاربة متماهية مع مُنتجات المدارس “الإنسانية” المؤكّدة على ضرورة إعلاء رغبة التلميذ ومشروعه قبل إشهار أولويات المجتمع، وتلبية طموح التلميذ قبل تلبية حاجيات الاقتصاد وضرورة مراعاة واقع استنفاد طاقة استيعاب المتخرجين في قطاعات بعينها.  

ولكن بعد مرور بضع سنوات حدث ما كان متوقّعا، فاختلّ التوازن تماما بين الشُعب وسقطت المنظومة في “الاختيار بالإكراه” والتوجيه حسب “الأمر الواقع” وإفراز مشهد هجين تنقسم فيه السبل المُمكنة إلى مسالك منطقية بالنسبة إلى من ثبت تميّزه في مجالات محدّدة، ومسالك أخرى هي عبارة عن “ملاذات” أمام تلاميذ بمهارات متوسطة وملامح فردية غائمة كل ما يسعى إليه أصحابها هو الاستمرار في الدراسة إلى غاية الباكالوريا، ومحاولة الحصول عليها باعتبارها عنوانا مازال مثمّنا اجتماعيا ويُتيح اجتياز مناظرات “الحاكم” بالنسبة إلى عدد كبير منهم.

ومن الأسباب التي ساهمت بشكل حاسم في تشكيل هذا المشهد غير السويّ في التعليم الثانوي، نذكر خاصة نسبة الــ 72 % من التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و 14 سنة الذين لا يتمتعون بالمستوى الأدني في مادة الحساب، والــ 34 % من نفس الشريحة العمريّة الذين لا يُحسنون القراءة والكتابة حسب تقرير اليونيسيف لسنة 2020… بما يعني أن هيمنة الرياضيات كمادّة مميزة مُعتمَدة كمقياس اساسي في كل الشعب تقريبا باستثناء شعبة الآداب (الرياضيات والعلوم التجريبية والعلوم التقنية وعلوم الإعلامية وبدرجة أقل شعبة الاقتصاد والتصرف)، شكّلت منذ الانطلاق عامل إقصاء مباشر لعدد كبير جدا من تلاميذنا غير المتصالحين مع هذا الحاجز المريع، لأسباب متعلقة خاصة بمنهجية تدريس هذه المادة- الغول وتقنيات التدريب عليها منذ الصغر.

وقد أعطت هذه السياسة “الليبيرالية” التي رفعت جميع القيود عن التوازن الحيوي بين المسالك الدراسية الانحرافات التالية :

– قلة قليلة من التلاميذ المتميّزين ممّن لا يُعيقهم شبح الرياضيات يختارون ولوج شعبة الرياضيات (حيث لا تتجاوز النسبة الوطنية 8% بينما كانت لا تقلّ عن 20 % في مطلع القرن مع تسجيل تدنّيها إلى مستويات الصفر في الكثير من المعاهد والجهات)، وتُفتح أمامهم كل الآفاق الجامعية دون استثناء  بعد الباكالوريا.

– نسبة هامة من التلاميذ المتميزين (بأغلبية دالّة لفائدة الفتيات) يختارون شعبة العلوم التجريبية لأنه بالإضافة إلى مستواهم المقنع في الرياضيات، يتوفرون على عُدّة لا بأس بها في الفيزياء وعلوم الحياة والأرض وكذلك قدرة فائقة على تخزين المعارف وحفظها … بنيّة الالتحاق بعد الباكالوريا بالشعب الطبية وشبه الطبية، ولكن نسبة من تنتدبهم هذه العروض الجامعية في التعليم العالي لا تتجاوز 5 % منهم. أي أن 95% من الملتحقين بشعبة العلوم التجريبية يجدون أنفسهم أمام “اختيارات جامعية” لم يفكّروا بها اصلا في الثانية ثانوي.

– عدد آخر من التلاميذ المتميزين والمَهَرة في المجالات ذات العلاقة بالإعلامية وما جاورها يختار شعبة علوم الإعلامية ويُحرز الباكالوريا فيها، لكن يُفاجأ بأن جامعتنا التونسية لديها احترازات جدية تجاه هذه الفئة من الوافدين عليها من التعليم الثانوي.

– شريحة هامة جدا من التلاميذ يُقبلون على شعبة الاقتصاد والتصرف لكونها شعبة “تونسية جدا” تتميّز بالوسطية والاعتدال ولا تتطلب سوى مستوى متوسط في كل شيء… لذلك أصبح هذا المسلك يعاني من تورّم غير طبيعي حيث تصل نسبة الملتحقين به في بعض الجهات إلى 30 % و40%… تنتظرهم آفاق جامعية تعُجّ سنويا بالآلاف من المتخرجين.  

– عدد آخر ممّن ضاقت بهم السّبل يمضي إلى شعبة الآداب في غير اقتناع حقيقي، نظرا إلى أن المستوى في اللغات والإنسانيات بصورة عامة تدنّى كثيرا خلال العقود الأخيرة، ولأن الآفاق المفتوحة أمام حاملي هذه الباكالوريا في جزء كبير منها هي في حقيقة الأمر ممرّات موصدة وحادّة.

رابعا : بعث شعبة الإعلامية، قرار تاريخي مبني للمجهول

الباكالوريا إعلامية بِدعة تونسية صرفة هي الأخرى لكونها تمثّل في كثير من بلدان العالم المتقدّم اختصاصا تقنيا ومهاريا خاصا يقع في دائرة “الفروع الخصوصية الممكنة” لباكالوريا أشمل هي الباكالوريا العلمية العامة. واقع الحال اليوم أن التلاميذ الذين يأنسون في أنفسهم قدرات استثنائية في كل ما يتصل بالعالم الرقمي والإعلامية وتطبيقاتها، يُخيّرون الالتحاق بشعبة الرياضيات لأنهم يُدركون جيدا أن “الاختصاصات الإعلامية والرقمية الصّلبة والواعدة” شبه موصَدة تماما أمام حاملي باكالوريا إعلامية في التعليم العالي.

مهندسو الإصلاح السّابقين لم يُدركوا أن الإعلاميّة إعلاميّتان : واحدة مُوجّهة للبرمجة وتطوير التطبيقات والخبرة في الأمن السيبرني وتصميم الويب والارتقاء بمقروئية البوابات الالكترونية وهندسة البرمجيات وتوظيف الإعلامية المحمولة… وأخرى موجّهة إلى تركيب الأجهزة الإعلامية وصيانتها وتحيين البرمجيات ومساعدة المستعملين في ضمان التوظيف الأقصى للأجهزة الإعلامية التي بحوزتهم والمكوّنات الفرعية المرتبطة بها.

ففي المنظومة التعليمية التونسية، لا فُزنا بتلاميذ في باكالوريا إعلامية يُمكّنون من حقهم الطبيعي في الالتحاق باختصاصات الصنف الأول (المراحل التحضيرية للدراسات الهندسية التقليدية منها والمندمجة والمعاهد العليا للإعلامية…) ولا وفّرنا نوعا من الباكالوريا التكنولوجية التي تُعفي تلاميذنا من العبء النظري الكبير للباكالوريا التقليدية القائمة اليوم وتجعلهم يمضون مباشرة وبأعداد كبيرة إلى الاختصاصات التكنولوجية المتوسّطة المطلوبة وطنيا وعالميا، مع فتح آفاق ومعابر حقيقية أمام المُتفوّقين من التقنيين المتخرّجين لمواصلة دراساتهم بمدارس الهندسة وشهائد الماجستير والدكتوراه.

خامسا : إسقاط منظومة المواد الاختيارية أنهى المرونة وأغلق المنافذ بإحكام

لعبت المواد الاختيارية تاريخيا في منظومتنا التربوية دور تهوئة البرامج التعليمية وإتاحة تنافذها بما يسمح لتلميذ الشعب العلمية بدراسة مواد إبداعية مثل الرسم والموسيقى واللغات الأجنبية الثالثة، وتلميذ الشعب الأدبية والإنسانية بدراسة بعض المواد العلمية. كما تسمح المواد الاختيارية بتنويع الاختيارات المفتوحة أمام حامل الباكالوريا وإضفاء مرونة أكبر على عملية التوجيه الجامعي.

لكن مع مرور السنوات، تآكلت تدريجيا هذه المنظومة وشهدنا :

– انحسارا ملحوظا جدا في ما يُفتح من آفاق “مختلفة” أمام بعض الباكالوريات، حيث لا يتوفر على سبيل المثال أمام حامل الباكالوريا آداب أكثر من 55 مقعدا فقط تخصصها منظومة التوجيه الجامعي لحاملي باكالوريا آداب في المسالك “غير الأدبية”.

– غياب أي تنسيق أو عمل مشترك بين التعليم العالي و التربية، في علاقة بربط منظومة المواد الاختيارية في التعليم الثانوي بعروض التكوين في التعليم العالي التي تتنوّع وتتعدّد كثيرا أمام محدودية لافتة  لمسالك التعليم الثانوي وشعبه، بما يفرض تنويعا أكبر في ملامح المتخرجين من الثانوي حتى تتلاءم أو تنسجم ولو بصورة نسبية مع ما يُعرض من مئات الشعب والاختصاصات في الجامعة.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version