منبـ ... نار

خواطر في ذكرى رحيل الزعيم بورقيبة

نشرت

في

“التاريخ هو صيغة أحداث الماضي التي قرر الناس الاتفاق عليها”    نابليون بونابرت

  عند التحاقي بكلية الاداب بمنوبة سنة 1985، اطلعت لأول مرة في حياتي على “قراءة أخرى” لتاريخ الحركة الوطنية التونسية، مخالفة تماما لما هو سائد رسميا في المجتمع التونسي آنذاك. وكان من حسن حظي أن ساحة هذه الكلية كانت تعج بالخطباء و”الزعماء الطلبة” من شتى التيارات والفصائل السياسية المتواجدة بالجامعة، يسارية، قومية، إسلامية،.. أذكر منهم الصافي سعيد ومحسن مرزوق وسالم الابيض وعبد الكريم الهاروني والعجمي الوريمي وغيرهم ممن صاروا بعد 2011 من “زعماء الحياة السياسية”...

<strong>د مصطفى الشيخ الزوالي<strong>

في ذلك السياق، كان التنافس على أشده بينهم في كيل كل النعوت المشينة لبورقيبة ونظامه… كان الكثيرون منهم يكررون، بمناسبة أو بدونها، عبارة “الخائن الأكبر” وذلك في مقابل ما تردده التلفزة الوطنية آنذاك عن خصال “المجاهد الأكبر”، ويتحدثون عن “وثيقة الخيانة المبرمة مع المستعمر الفرنسي سنة 1956″… كان أول كتاب قرأته عن بورقيبة “الآخر” في الجامعة، يحمل عنوان “سقوط البورقيبية” لابراهيم طوبال. وكان من الكتب الممنوعة، المتداولة سريا بين الطلبة،  فقط داخل أسوار الجامعة…

قلت من حسن حظي أني وجدت ذلك التنوع في كلية منوبة، لان الكثيرين من أبناء جيلي، القادمين من مدن تشبه مدينة المهدية، من حيث محدودية فرص “التسييس” قبل الالتحاق بالجامعة، الكثيرين من هؤلاء كانوا يجدون أنفسهم في مؤسسات جامعية لا تتوافر بها فرص الاستفادة من ذلك التنوع، وعليه كان يسهل استقطابهم من قبل التيار المهيمن في المؤسسة الجامعية التي يجدون انفسهم فيها، وكانت “النتيجة شبه الحتمية”: ضياع الكثيرين منهم في غياهب الصراعات الأيديولوجية، بل لا يزال البعض منهم غارقا إلى اليوم في نفس الدوامة الفكرية والنفسية….

في تقديري الشخصي، ومهما كانت التفاصيل حول شخصية بورقيبة وتاريخه، نحتاج إلى التخلص من كل أشكال الهُجاس (obsession) حول بورقيبة، إلى تجاوز ردود الفعل الانفعالية، دفاعا أو هجوما على بورقيبة… نحتاج إلى “فضح” اصحاب المصلحة في استمرار القراءات الانتهازية والاستثمار في “الأصل التجاري لبورقيبة” ومكانته في وجدان الناس، جذبا أو نفورا. ( أعني حبا أو كرها، تعظيما أو تقزيما).

مع الإقرار بأنه لا يمكن التغافل عن الكثير مما يذكره  المنتقدون لبورقيبة المركزون على “سلبياته وأخطائه” ، إذ المراجع كثيرة لمن يسعى إلى البحث في هذا الشأن… واستحضر هنا ما جاء في الرسالة المطولة لاحمد التليلي موجهة إلى صديقه وزعيمه، “رفيق النضال ضد الاستعمار” الحبيب بورقيبة سنة 1966 (رسالة بـ 60 صفحة ينصحه فيها بمراجعة سياساته). كما استحضر الكتاب الضخم “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة…” للصغير الصالحي (وفيه تفاصيل كثيرة عن آليات الاشتغال السياسي والاقتصادي في تونس منذ 3 قرون) إضافة الى الأعمال والوثائق الكثيرة بمؤسسة التميمي الذي جمعها حول بورقيبة قبل 2011 وبعدها.. أضيف أخيرا معطيات أساسية حول بورقيبة، علمتها من حضوري في حلقة حوار نظمتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، جمع فيها الأستاذ عبد الجليل التميمي، كل أطباء بورقيبة وغاب عنهم عمر الشاذلي، حيث أجمعوا على ان بورقيبة bipolaire “ثنائي القطب” وأنه يوجد في هذا الشأن، تقرير سري أمريكي حول حالته الصحية منذ سنة 1971 تقول أشياء “خطيرة”….

ولكني مع الإقرار بكل ذلك وغيره، أجد نفسي، ولو من باب الضرورة التاريخية والبيداغوجية، أقرب إلى قراءة إيجابية لإرث الزعيم بورقيبة…فما احوجنا في ظرف عالمي راهن، كل ما فيه يدفع إلى التفريق والتفتيت، إلى بناء وعي سياسي تجديدي، يقرأ الاحداث والوقائع التاريخية في سياق براغماتي، براغماتية نبيلة في غاياتها، تجمع التونسيين ولا تفرقهم

رغم كل القراءات المتشائمة لما حدث في تونس خلال العشر سنوات الأخيرة، فان بلادنا، ما زالت حالة خاصة وفريدة مقارنة بمنطقة عربية مليئة بالعصبيات المتناحرة التي قادت الى نشوء حروب متعددة الأشكال…وفي تقديري ان لبورقيبة دورا مركزيا في بناء هذه “الفرادة التونسية” (يتحدث عنها صفوان المصري في كتاب يحمل هذا العنوان، كتبه باللغة الانكليزية وترجم مؤخرا للغة العربية)

ميزة بورقيبة الأساسية التي لا يمكن إنكارها ويشهد بقيمتها اليوم الكثير ممن كانوا يعارضونه، هي مركزة الحس الوطني حول تونس دولة ومجتمعا، في وقت كان أغلب معاصريه من المثقفين والسياسيين في تونس وفي البلدان العربية، يحلقون في اليوتوبيا والرومانسيات، مسكونين بتطلعات تجريدية كبرى مثل تحقيق الوحدة العربية أو استعادة مجد الخلافة الإسلامية أو حلم الدولة الاشتراكية.. رغم كل النقد الذي توجه لبورقيبة في تنظيره لـ”ألأمة التونسية” ورغم كل ما يُقال عن سلبياته …. فما احوجنا اليوم مجددا وأكثر من أي وقت مضى، إلى مركزة الحس الوطني حول تونس دولة ومجتمعا، ولكن مع تجاوز مستوى الحنين إلى “البورقيبية” و مجرد الاستهلاك من الارث الذي خلفه، إلى مستوى أبعد من ذلك بكثير….

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version