مشكلتنا مع تاريخنا أننا نخجل دائما من النظر إليه و التحقيق فيه، رغم أننا أحفاد العظيم ابن خلدون … تاريخنا القديم فيه و عليه، و لكن مشكلتنا أكبر مع تاريخنا المعاصر … و خاصة فترة نصف القرن الأخير حيث توجد كل وسائل التدوين و التوثيق، و لكن ـ يا للمفارقة ـ هي الحقبة الأكثر طمسا و إظلاما من جميع تواريخنا … و هات مثلا ذكرى 26 جانفي 1978 التي تعودنا كل سنة في يوم كهذا … مع العلم بأن موضوعها لا يهمّ سوى الذين من داخل الدولة الوطنية بحلوها و مرّها، لا أهل الولاء لتلك الإمارة أو ذاك التنظيم الدولي المشبوه …
عن مأساة أو انتفاضة 26 جانفي، تمّ مسح كل شيء في شخصين توفيا الآن … الأول هو حبيب عاشور، الأمين العام السابق لاتحاد الشغل الذي أصدر قرار الإضراب العام و هذا محض تجديف على الواقع … فمن يعرفون الاتحاد، يعرفون أيضا أن آلية الإضراب مهما كان نوعه لا تعود إلى شخص واحد … و إنما إلى هياكل و مؤسسات المنظمة العريقة و الديمقراطية الوحيدة في بلادنا، و حصيلة نقاشات مطوّلة داخل هذه الهياكل التي تضمّ شخصيات تكون أحيانا متنافرة سياسيا … كما أن القرار يتمّ غالبا تحت ضغط منخرطي الاتحاد و هم بمئات الآلاف و ليسوا بمنخرطي حزب ينتظر أوامره من زعيم … شرعية القيادات النقابية مستمدة من هؤلاء عدديا و انتخابيا، و ليست قادمة من أعلى الهرم كما في تنظيماتنا السياسية الأبوية …
كما أن الطرف الآخر ـ و ربما الأهمّ ـ في انسداد التفاوض، هو الطرف الإداري أو الحكومي … كان هناك فشل ذريع في سياسة السبعينات المنغلقة حقوقيا (و حتى داخل الحزب الحاكم) و المنفتحة اقتصاديا على النهب الدولي (قانون 72) و جشع الطبقة الطفيلية المحلية (قانون 74) … نفس العائلات بقيت تحتكر الاقتصاد، و نفس الاقتصاد الريْعي الذي نشاهده إلى اليوم و المتمثل في احتكار أنشطة غير منتجة و مرتبطة بتوكيلات الماركات الأجنبية على حساب الاقتصاد الوطني … و من يعود إلى أحوال تلك الفترة، يلاحظ إغراق السوق التونسية بأكداس السلع الاستهلاكية المستوردة … مع كساد و بداية تفليس شركاتنا الصناعية مثل “الأثير” و “الرفاهة” و “ستيا” و “سوجيتاكس” و “التوزيع” و “الساتباك” إلخ، تمهيدا لخوصصتها …
كما نذكر أن تلك الفترة (فترة نويرة) بدأت بالمصادقة على أول اتفاقية “أليكا” مع الدول الأوروبية و خاصة فرنسا … و هذا يعني بالطبع السقوط في تداعيات مثل هذه الاتفاقية على سيادتنا كما عاد إليه الحديث هذه الأيام … و حين حصلت الأزمة البترولية الأولى لسنة 1973، وجدنا أنفسنا في فم المدفع بدل أن نكون وراءه من المستفيدين … فعلاقاتنا بأجوارنا في ليبيا و الجزائر (و هم أول من استفاد) كانت منعدمة أو رديئة و حتى عدائية … في حين كانت لنا علاقة أحادية بأوروبا المتضررة من أزمة البترول، فكان أن غرقت و غرقنا معها … و لم تعد تقبل منا حتى جيوش العاطلين عن العمل الذي كنّا نصدّرهم بحمولات البواخر، و قصيدة الراحل مولدي زليلة خير تعبير عن سياستنا لتلك الفترة …
يطول الحديث عن فشل اقتصاد السبعينات و فشل الهادي نويرة بالذات، و لكن الذاكرة القصيرة تتغافل عن ذلك و ترفع الرجل إلى مرتبة الأنبياء و الصديقين …
الشخص الثاني الذي نستعمله اليوم كممسحة لتلك الفترة هو العقيد (وقتها) زين العابدين بن علي … صحيح أنه كان مع كتائبه الأمنية الأداة الضاربة القامعة القاتلة لجموع المتظاهرين … كان “أداة” كما قلنا و لكن في يد من؟ … و من أتى به من المغرب كملحق عسكري مبعد منذ سنوات؟ ألم يكن عبد الله فرحات، أحد متشددي السلطة و من كبار مستعملي العصا الغليظة في التعامل مع الشعب التونسي؟ ألم يكن الهادي نويرة الذي كان يأمرنا باتّباع الزعيم كما يتبع المريدون شيخهم في حلقة ذِكر … و قد قال ذلك في خطاب سمعناه بآذاننا و رأيناه بأعيننا … لم يكن نويرة ذا تكوين اقتصادي و لم يترك إرثا يُعتدّ به، عكس ما حققته دولة الاستقلال في الستينات (صحة، تعليم، صناعة، مكاسب اجتماعية…) قبل قدومه … و مع ذلك يصنّفه الجهلةعلى أنه عبقري الاقتصاد و “كينز” زمانه اليوم …
ننسى فرحات كما ننسى نويرة كما ننسى الدور التخريبي الذي لعبته ميليشيات الصيّاح التي أمعنت في البلاد كسرا و حرقا و ضربا و قتلا لمئات المواطنين … و كانت دائما تترك بصمتها على جدران الشوارع بالدهن الأحمر: “الموت للخونة” و “الموت لعاشور” و “لا مكان للخونة” و “عاش المجاهد الأكبر” … كما ننسى الدور القذر الذي قامت به وسائل إعلام السلطة التي تقاسمت الدور مع ميليشيات التخريب فاتهمت النقابيين بكل ما فعلته الميليشيات، و زيّفت الوقائع كما أرادت، و لم يسلم منها حتى زملاؤها نقابيو الإذاعة و التلفزة … و كانت نظرة الشماتة بل السعادة تطلّ من عيني رؤوف يعيش و هو يعلن عن اعتقال قياديي الاتحاد (و فيهم من مات تحت التعذيب)، و عن إيقاف الصحفي محمد قلبي، و عن حالة الطوارئ و حظر التجوال …
كم يحتاج تاريخنا إلى مراجعة و مساءلة و تنظيف حقيقي للجرح … نحن دائما نقفل جراحنا على مرض و عفن و نتركها هكذا … و لهذا السبب ربما، لم نشفَ إلى الآن و بقينا نُراكم أمراضا على أمراض …