كنت مارا أمام مقهى شعبي حين لفت نظري أحد الأصدقاء من الشباب العاطل جالسا في وضعية المهموم والمحبط…اقتربت من كرسيه وسألته “ما بك يا صديقي؟ ولم كل هذا الإحباط والتفكير؟ لم كل هذا اليأس الذي توحي به جلستك هذه واصفرار وجهك…وكأنك تعاني كل أوجاع الأمة والعالم وأنت في هذه السنّ؟”…
نظر إلي وقال بصوت خافت يؤكّد الوجع الذي يعانيه “امرأتي حامل في شهرها الثاني بعد أكثر من خمس سنوات انتظارا، كنت أمني النفس بطفل يعيش سعيدا معي ويهنأ بهذه الحياة وفي هذه الدنيا وفي هذا البلد، لكن وأنت أدرى منّي بحال البلاد والعباد هل سأكون أبا صالحا لهذا الطفل الذي سيأتي بعد سبعة أشهر؟ هل سأنجح في اسعاده وفي توفير كل ضروريات الحياة الكريمة…لا أظنّ أنني سأكون كذلك ولا أظنّ أنني قادر على اسعاد ابني في هذا الذي تعيشه البلاد يا صديقي” نظرت إليه وقلت: وماذا عساك أن تفعل؟ لا شيء… هل أنت قادر على تغيير قدره والتحكّم في مسار حياته؟ لا أظنّ أنك قادر على ذلك… وهل ستضطرّ إلى إجهاض واسقاط من كنت تنتظره لسنوات خوفا عليه من مستقبل مجهول وخوفا من ألاّ تكون قادرا على اسعاده؟
استغرب قولي وعقب بصوت مرتفع “ومن قال إني أريد قتل ابني قبل ولادته…؟ لا أنا لن أفعل ذلك ابدا ولن أفكّر فيه حتى”…أجبته قائلا ” إذن ما الذي ستفعله لإبعاد كل هذا اليأس والإحباط عن نفسك وضمان حياة كريمة لابنك القادم يا صديقي؟” قال مبتسما “كتبت له رسالة اعلمه فيها بكل ما ينتظره”… “نعم! ماذا قلت رسالة وكيف أرسلتها؟ هل تمزح أم ماذا؟” قال بصوت خافت “لا، لا أمزح، فعلا كتبت رسالة وأوصيت زوجتي بأن تقرأها له كل ليلة قبل نومها؟” ضحكت وقلت “ومن أدراك انه سيستمع لأمه وهي تبلغه رسالتك يا هذا أجننت؟؟” قال مستغربا “ومن أدراك أنه لا يستمع وهو في بطن أمه؟”…
لم أصدّق ما قاله صديقي المحبط اليائس فأضفت “وباية لغة كتبت رسالتك وابنك لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولن يفهم ما ستبلغه أمه مما كتبت في رسالتك؟” قال “كتبتها بلهجتنا وبلغتنا حتى يفهمها …أعلم أنه لم يقرا ولم يكتب ولم يسمع قبل رسالتي أية رسالة أخرى لذلك كتبتها بالدارجة “.
نظرت إلى صديقي وقلت “هل لي بنسخة من الرسالة إن سمحت طبعا؟” قال وهو يبحث في جيبه الايسر”طبعا عندي نسخة في جيبي أحتفظ بها ليوم آخر” … أخرج صديقي ورقة أنهكها وجودها في جيبه فتغيّر لونها وغلب عليها الاصفرار وأصبحت كأنها مخطوط من الدولة الفاطمية…أخذت الورقة وفتحتها لأجد عشرات الأسطر مبعثرة وغير منظّمة وكأنها رؤوس أقلام خطاب أحد ساسة هذه الأيام …وبدأت أقرأ ما جاء في رسالة صديقي إلى ابنه الذي لم يولد بعد:
” ولدي الغالي…استنيناك أنا وأمك عندنا سنوات…وتعبنا باش وصلنا للي انت فيه اليوم…مشينا للعزّامات…ومشينا للطُبّة…ودُرْنا بلاد كاملة باش من بعد كتب وحَبْلت بيك أمك طبعا بعد مجهود إضافي من باباك اللي هو أنا…وليدي الغالي…باش نجيك مللخر…راني بطّال مللّي تخرجت…جت هاك مكبوبة السعد الثورة وقفت معاها وخرجت نعيّط ونصيح مع أولاد الحومة ومشينا قدّام الولاية وعيطنا… شغل …حرية …كرامة وطنية…وفي الاخر طلعت كذبة وما صورنا شيء…مات جدّك وأنا بطّال ما عمري شريتله حتى كبوس…وماتت جداك وأنا بطّال ما لقيتش حتى دينار باش نفرحها بحاجة…وليدي باش نجيك مللخر…تو يقولولك انت في وطن غالي وباش يقولولك هاك الكلمة المشهورة حب الوطن من الايمان…ونسوا أن حب الشعب زادة من الايمان …وباش يقولولك انت في وطن حرّ وعندو سيادة وفي خدمة الشعب…ومستحيل تجوع …ومستحيل تحتاج…راهم يكذبوا عليك…ما عندهمش فلوس والازمة “مستفحلة”…كلمة “مستفحلة” تو تفسرهالك أمك وليدي…ما ثمّة شيء وليدي…لا باش يخدموك…لا باش يكبروك…لا باش يوكلوك…لا باش يداووك كي تمرض…هاك تشوف في باباك قريت …قريت …قريت وبعد هاني ملوح نطلب في سيڨارو من عمّك حسن ولد خالي التومي…عارفك ما تعرفهمش وليدي لكن تو تتولد وتعرفهم …
وليدي الغالي …مانيش باش نطوّل عليك …ونعرف أمك باش تقرالك الجواب هذا قبل ما ترقد كل ليلة…لكن هاهو الصحيح…راني بطّال …وما عندي حتى فرنك فوقي…والامراض الكل راكبتني…عندي الحجر في الكلاوي…وعندي شوية سكر…وعندي الدم طالعلي…وعندي دقة زايدة في القلب…وعندي المصرانة الخشينة… وساقي تكسرت وما جبستهاش برات معوجة…والحوانتي يسالني…والفحّام يسالني…والدخاخني يسالني…والطبيب يسالني…والفرملي اللي يدق في الزريقة لامك كي حبلت بيك يسالني…والصيدلية تسالني…والتاكسيسيت يسالني…والجزار يسالني عندو عامين…والحجام يسالني…وعمك سعيد يسالني…وعمك الكوني يسالني…وفتحي بوطحش يسالني…وعلي الأعور يسالني…وحمادي باتينده يسالني…وعمر كرفة يسالني…ومولى الدار يسالني كراء ثلاث سنين…وخالتك تسالني…وحتى صندوق النكد الدولي يسالني ما دام يسال الدولة…
الوحيد اللي ما يسالنيش مات أول امس، نهار اللي انا قررت باش نمشي نتسلف منه عشرة دينارات باش نخلص بيهم التاكسيست اللي هزّ أمك للسبيطار…وما نخبيش عليك انت ولدي وما عندي علاش نحشم منك…عندي سروال دجين نحُكْ فيه عندو خمس سنين…جابلي خالك سروال من إيطاليا بعته باش داويت أمك…وجابلي عمك الكوني صباط وتريكو من السعودية كي مشى عمل عمرة صرفتهم كي جداك ماتت…وكل ستة شهور نمشي انا وامك للفريب ساعات نروحوا بسروال بزوز دينارات وسورية بالفين… انت والبالة…المهمّ وليدي نحب نعلمك بالوضع اللي عايشوا أنا وأمك وانت دليلك ملك…تحب تجينا مرحبا نقسموا اللي نلقوه…وتحب تتراجع وليدي انت حرّ…
نزيد نعلمك…صعيب باش نخدم قبل عشرة والا عشرين عام اخرين…وقتها نولي معادش قادر باش نخدم…وليدي…نسيت ما قتلكش …راهو الخبز بالصف…والزيت والله لا ريته من عام التالي نقصد زيت الحاكم باقي زيت الزيتونة عندي اربع سنوات ما ذقتوش … اخر مرّة ذقت زيت زيتونة في صحفة بسيسة كليتها عند الحاج خليفة ولد عمي عمّار…أما الفرينة تحضر وتغيب كي الشمس في شتاء الدانمارك…ما تعرفهاش الدانمارك تو تعرفها نهار آخر كان كتب… والأكيد في بالك بالحرب بين روسيا وأوكرانيا هي اللي خلت الفارينة موش متوفرة؟ …وهاهم قالوا اللي راسبوتين …لا…لا بوتين موش راس بوتين…وعد باش يعطينا برشة طرانط قمح وشعير صدقة…وان شاء الله صدقة بالغة ويلقاه في صغاره ان شاء الله…والسكر وليدي ساعات ندبّر كيلو نقسْطه على شهر وانا بطبيعتي عندي السكر نشرب القهوة مرة تولي حلوة في كرشي …
الحاصيلوا الأمور متأزمة…ما نتصورش اني نلقالك نهار آخر الحليب كان طلعت أمك ما عندهاش حليب…وليدي مللخر…كانك قابل باش تعيش معانا الازمة اللي عايشينها مرحبا بيك…وكانك وليدي تسخايلها جنة وباش تتفرهد نقلك الله غالب كذبوا عليك…ننصحك باش تقنع امك باش تحرق بيك وتولدك في فرانسا عندها زيتونتين وقطعة ارض مع اخواتها تنجم تبيعهم وتدبّر حرقة وبعد نخلط أنا…وغادي نتهنى عليك…وحقّ ربي كيف ما حكيتلك…وهوكه أمك اسألها نهار آخر اش نعاني وقداش تعبت…
نسيت وليدي راهو الانترنات ما عندناش في الدار…وما عندناش باش نشرولك بلاي ستايشن نهار آخر…وانت دليلك ملك يا غالي…ما تقولش نهار آخر بابا عداها عليّ وكذب عليّ كيف جماعة الثورة وكيف الحكومات الكل اللي جات بعد الثورة…نبوسك ولدي وسلملي على…تي لا ما تسلملي على حدّ …ايّا ربّي يوصلك بالسالم…وليدي”…
أوجعتني الرسالة …وخرجت مسرعا من المقهى …بعد أكثر من شهرين علمت أن زوجة صديقي سقطت من على ظهر حمار أحد اخوتها عند زيارتها له في أحد ارياف البلاد للحديث عن بيع قطعة الأرض والزيتونتين… ولم ينج الجنين فمات قبل أن يولد…ولا أحد يعلم هل بلغته رسالة والده أم لا…