جور نار

سأحدثكم عن شهاب المهتّلي … أو كيف نُطوّع القانون لخدمة الناس وليس العكس

نشرت

في

يُقفل اليوم الإثنين 15 أوت في حدود منتصف الليل مسار التوجيه الجامعي لسنة 2022 من خلال قيام الطلبة الجدد غير الرّاضين عن توجيههم الأوّل، بمحاولة تعديل مسارهم والسعي إلى الحصول عن شعبة جامعية تتلاءم أكثر مع ميولاتهم الدراسية والتكوينية أو مع مشاريعهم المستقبلية أو كذلك مع أوضاعهم الاجتماعية والعائلية…أو كل هذا معًا.

وسأنطلق من وضعيّة واقعية دالّة عشتُها شخصيا في بداية الألفية الجديدة والتي ظلت محفورة في ذاكرتي لطرافتها ودلالاتها، وعلاقتها العضوية بما يحدث اليوم في مجال التوجيه وإعادة التوجيه الجامعيين.

<strong>منصف الخميري<strong>

راجعني سنة 2001 شابّ يتكلّم العربية بصعوبة، اسمه شهاب المهتلّي، أصيل جهة منزل تميم على ما أعتقد وعرض عليّ وضعيّته المتمثلة في كونه عاش رفقة عائلته بألمانيا إلى غاية سنة اجتياز امتحان الباكالوريا، وقد تابع دراسته الثانوية في شعبة علمية (تُعادل شعبة الرياضيات لدينا) باللغة الألمانية أساسا. بطبيعة الحال. مكّنته وزارة التربية آنذاك ونظرا إلى خصوصية وضعيته من “إجراءات استثنائية” تُراعي عدم حذقه للعربية ولا للفرنسية، فقد تمّ الالتجاء على سبيل المثال إلى أستاذ ألمانية ترجم له موضوع الفلسفة وقدّم شهاب تحريرا باللغة الألمانية ليتولى فيما بعد أستاذ الألمانية ترجمته لأستاذ الفلسفة الذي أسند له عددا بناءً على ما استمع إليه شفويّا من زميله…

وهكذا بالنسبة إلى عديد الاختبارات الأخرى. صُرّح بنجاح شهاب المهتلّي في امتحان الباكالوريا وانطلقت رحلة توجيهه الجامعي المُضنية لأنه بملمحه اللغوي ذلك لا يمكن أن يدرس إلا بشعبة الآداب والحضارة الألمانية التي لم تكن توجد آنذاك إلا بكلية الآداب بمنوبة قبل توسّعها لتُبعث في حي الخضراء والمكنين وقابس ومدنين… لكن مجموع نقاطه لم يسمح له بنيل هذه الشعبة-المُنقذة (بالنظر إلى الصعوبات التي واجهها في امتحان الباكالوريا، وبالتالي حصوله على معدل غير مرتفع وبالنظر أيضا إلى طاقة الاستيعاب المحدودة المفتوحة في شعبة جامعية يتيمة وطنيا… قعُيّن في إحدى الشعب التقنية بالجنوب..

لم تكن تربطني بوزارة التعليم العالي في تلك اللحظة أية علاقة إدارية أو رسمية ولكن وجود شخص أُجلّه وأكنّ له احتراما خاصا على رأس الإدارة العامة للشؤون الطالبية هو أستاذ الانكليزية بالجامعة التونسية السيد بشير الأمين هو الأمر الذي شجّعني على تكوين ملفّ مع عائلة شهاب المهتلّي وعرضه رأسا على سي بشير (متّعه الله بموفور الصحّة والنجاح في تأثيث مدوّنته المتميّزة الباحثة في أصول “كلمات من اللهجة التونسية جاءتنا من ضفاف البحر الأبيض المتوسط وما وراءها“https://qamus-tunsi.blogspot.com) الذي أصغى إلينا جيدا وتصفّح محتوى الملفّ وأبدى امتنانا كبيرا لوزارة التربية التي بذلت مجهودا استثنائيا في التعاطي مع وضعية هذا الشاب التونسي العائد من أوروبا … ووعد بأن يعرض الموضوع على وزير التعليم العالي ساعتئذ ويُراجعنا في الأمر.

بعد أسبوع تقريبا، وقع إعلامنا بأن الشاب المعني تمّ قبوله بشعبة الألمانية بكلية الآداب بمنوبة. كانت فرحتي شخصيا تضاهي أو تفوق فرحة عائلة هذا الطالب الجديد الذي عاد إلى بلاده فوجد إدارة مرِنة ومتفهّمة ومُرحّبة بأبنائها بخصوصياتهم واختلافاتهم وتنوع مساراتهم. لم ألتقِ شهاب المهتلّي بعد تلك اللحظة ولست مطلعا على التفاصيل التي ميّزت مساره الجامعي، ولكنّي متأكّد أنه درس جيدا وتميّز ومضى بعيدا في تحقيق ذاته ونحت مستقبله.

قد يعترض عليّ بعضكم قائلا “ولكن ما قيمة حالة معزولة من جملة عشرات الآلاف من الحالات العادية الأخرى ؟! “

بالنسبة إليّ، وعلى عكس ما يتصوّره بعضنا، عدد مثل هذه الحالات الخاصة جدا يُقدّر بالعشرات إذا لم يكن بالمئات، وبالتالي فهو محمول علينا جميعا وعلى الدولة وأجهزتها بصورة خاصة أن نعتني بها ونُصغي إليها وأن يُكسر أنف القوانين والضوابط والمقاييس والإجراءات المحنّطة والسياسات المُنمّطة في سبيل تعهّدها واجتراح الحلول الملائمة حتى لا تظل على حافة الطريق. ومن ناحية أخرى، فإنه يكفي أن يفشل أي نظام في إنقاذ شخص واحد حتى يحكم على نفسه بالعجز والقصور وانتهاء مشروعية استمراره  لأن الفرد في نهاية المطاف هو محور أية سياسة ومنتهاها وغايتها.

وسأعرض عليكم فيما يلي ـ  وفي علاقة بموضوع التوجيه بالذات ـ جملة من المفارقات الموجِعة التي نعيشها هذه الأيام بسبب سياسات دولة تحرص بصورة شكلية على تطبيق قوانين تطحن الأفراد وتشمت في خصوصياتهم المُعيقة وتمتنع بصورة إرادية عن بذل أي جهد استثنائي يخدم الناس ويخفّف العبء عن عائلاتهم الرازحة تحت نير معيش يومي ثقيل وماحق :

ماذا يعني أن تحجِب وزارة التعليم العالي جملة من الشعب الجامعية (ودون أدنى إعلام مُسبق للرأي العام الوطني والطلبة الجدد بصورة خاصة، وما عليك إلا أن تكتشف ذلك بنفسك أثناء تعمير بطاقة إعادة التوجيه على الإنترنت عندما تعترضك عبارة “اختيار خاطئ” الطّاردة) ولا تعرضها في إعادة التوجيه أو النقلة ؟ والحال أنه حقّ مشروع ولا نزاع فيه خاصة بالنسبة إلى من يستجيب لشرط مجموع النقاط من ناحية، ومن لديه أوضاع اجتماعية أو عائلية غاية في التعقيد والحدّة من ناحية أخرى ؟

وماذا يعني أن تُحجب الشعب التي تتطلب اختبارات من إعادة التوجيه (حتى مع توفّر شرط مجموع النقاط) بدعوى أن أعضاء اللجان المكلّفة بإجراء الاختبارات أنهوا عملهم في بداية شهر أوت وتقاضوا أجورهم وعادوا إلى شواطئهم ولا يمكن بأي حال أن يعودوا لإجراء الاختبار مجدّدا (هكذا !)…والأغرب من هذا أن وزارة التعليم العالي تفسح المجال لـــ “أصحاب المواهب والمهارات الاستثنائية” ليلتحقوا ينفس هذه الشعب في نهاية شهر أوت (السياحة والصحافة والسينما والموسيقى والمسرح والتصميم…) بعد مواعيد التئام اللجان المذكورة ؟

وماذا يعني أن يوجد تلاميذ متميّزون جدا في الرياضات المختلفة وينتمون إلى جمعيات مدنية جهوية ووطنية ولكنهم أحرزوا شهادة الباكالوريا في غير شعبة الرياضة أو أحرزوها في باكالوريات أخرى ولم يسعفهم شرط مجموع النقاط من الحصول عليها فيحرمون من الالتحاق بالمعاهد العليا للرياضة والتربية البدنية المنتشرة في أربع ولايات ؟

وماذا يعني أن يحصل تلميذ على باكالوريا تقنية وتنقصه نقاط قليلة في اختصاصات تكنولوجية هي في صميم ما تدرّب عليه في المرحلة الثانوية مثل الهندسة الكهربائية والهندسة الميكانيكية والميكاترونيك … ويُزجّ به في شعبة الفرنسية أو التاريخ أو المحافظة على الممتلكات الثقافية وترميمها…بدعوى “الاحتكام الصارم إلى المقاييس الموضوعة في المجال” ؟ والجميع يعلم مُسبقا أن أعداد هؤلاء في اللغة الفرنسية تحديدا تحوم حول مستوى الصفر وأن مصير هؤلاء “التائهين” هو الانقطاع ومواجهة أدغال الحياة الموحشة.

وماذا يعني أن نُرسل طالبة جديدة من تونس الكبرى (ومن أبويين مُربيّين وبالتالي لا يمكن أن يصنف مطلبها ضمن الحالات الاجتماعية) إلى إحدى مدن الجنوب لتدرس اختصاصا يوجد مثله تماما في جهتها الأصلية ولكن مجموعها تنقصه نقطة أو نقطتان ؟ وماذا يعني أن يتمّ التذرّع بالاختلال المحتمل في طاقة استيعاب الشعب المعروضة للتناظر والكل يعرف أنه بعد انطلاق السنة الجامعية، تكون أغلب المؤسسات الجامعية تعمل بنصف طاقتها أو ربعها أو حتى عشرها وأدنى ؟ وماذا يعني أن يتمّ التغافل رسميّا عن احتساب الآلاف من الطلبة الجدد الذين يختارون (لأسباب مختلفة) الالتحاق بالتكوين المهني والتعليم الخاص والدراسة بالخارج، في تعديل طاقة استيعاب التعليم العالي العمومي المحددة وفق مقاييس حديّة صارمة لا تشبه بالمرة عدم التحكّم بهذا التشتّت المريع في المنظومة الوطنية للتعليم والتكوين عموما ؟

وماذا يعني في النهاية إرجاء إصلاح هذه المنظومة التي تآكلت وباتت تتسبّب سنويا في مآس عديدة تُلقي بتداعياتها المدمّرة على مستقبل أجيال وتوازن عائلات وتماسك مجتمع بأسره ؟

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version