جور نار

سبعة أصناف من ذوينا تزعجها الحرب على غزّة

نشرت

في

هذه الحرب ضد أهلنا في فلسطين تُزعج بعض الأصناف من الناس أكثر من الفلسطينيين أنفسهم الذين تصالحوا مع البشاعة وتآلفوا مع العراء وتماهوْا مع الشحّ البالغ في كل المواد الأساسية من ماء وغذاء ودواء… وأصبحت تربطهم بالموت علاقة تحدّ ومواجهة وعزّة وكرامة…

<strong>منصف الخميري<strong>

فالفلسطيني خبِر عدوّه جيدا وأدرك حقده التاريخي على لغته وألوانه ورموزه التي من دونها لا يمكن أن يستمر في الوجود. وها هو حقده وكرهه التاريخيان يبلغان البارحة حدّ التهديد باستعمال القنبلة النووية.

لا أذهب إلى حدّ وصم هؤلاء الممتعضين والمُتبرّمين  بالتواطؤ أو بالانحياز إلى صفّ القتلة، وإنما هي رغبة أرشيفية بسيطة في تسجيل “من عليّ من الذئاب ومن معي” كما يقول شاعر غزة ابن حي الشجاعية المرحوم معين بسيسو.

ومن هذه الأصناف المغتاظة والمُمتعضة:

___ الكتّاب والأدباء والمثقّفون الواقفون على خط الحياد، السّاعون إلى نيل الجوائز الإقليمية والعالمية التي يؤخذ في إسنادها بعين الاعتبار عامل “الاستقامة السياسية” والقدرة على صياغة المواقف الصابونية اللزجة المُحدِثة لرغوة كبيرة لكن لا تُمسك في صلبها إلا على ما يشبه البخار والإسفنج… هؤلاء يُبدعون في تصميم مواقف تُمسّح بلطف في اتجاه الشَّعر، من قبيل “التاريخ ليس سوى جرد للأهوال والأعمال الانتقامية التي لم تتحقق، والخسائر الفادحة لعدم قدرتنا على استحقاق العيش في سلام وفرح” (ياسمينة خضرا) أو “لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبّر عن مدى رعبي مما فعله مسلّحو حماس باليهود. عندما تهاجم الوحشية النساء والأطفال تصبح همجية وليس لها أي مبرر أو عذر. أشعر بالرعب لأن الصور التي رأيتها هزّت أعماق إنسانيتي” (الطاهر بن جلّون)  أو كذلك “أنا أكره مشاهد القتل والدّمار” (ألفة يوسف) … مع الملاحظ أنني أكنّ تقديرا خاصا لجميع هؤلاء في ما يتّصل بكتاباتهم الأدبية ولست مستعدّا لأن أجرّح في أيّ منهم مهما أتوا من مواقف، لأن الأصل في التعبير هو الحرية ومطلق الصدق دون حساب…تماما مثل الرياضيين الذين نتذوّق جودة لعبهم في مجالهم ولا نُقاسمهم بالضرورة مواقفهم الخاصة إزاء القضايا العامة.

___ المثقّفون (جامعيون وإعلاميون ومدوّنون …) الذين حرمهم لهيب الوضع المهيمن اليوم في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل وفي المقاهي وفي الشارع وفي الكليات وفي كل المواقع، من مواصلة الاستثمار في مدارات اهتمامهم المفضّلة والتي غالبا ما تحدّدها أولويّا مراكز تأثير نائمة أو مخابر بحث أكاديمية ووكالات عابرة للقارات ومؤسسات تمويل عالمية تتغطى أحيانا بالتعاون وترويج البحث وتطويره أحيانا أخرى… وعادة ما تكون عناوين الاهتمام الأكاديمي أو البحثي المطروحة للتداول، هُلامية وحياديّة من قبيل السلم في فلسطين بين الأسطورة والواقع أو الصداقة على ضفاف المتوسط : أي فرص للتحقق ؟ أو كذلك أي دور لمجموعات الضغط في المجتمع الإسرائيلي من أجل إحلال السلام الخ…

___ المُبشِّرون بالسعادة الواهمة من رُوّاد التنمية البشرية الذين يمطروننا صباحا مساءً ببداهات ساذجة وسمِجة تقول فيما تقول إن السعادة تكمن في تحميل جُرعات الأدرينالين  وكيف تجعل الناس تحبّك في 90 ثانية والمشاركة في يوم تدريبي عن مهارات تطوير الذات بــ 400 دولار والدجاج إذا وثق بنفسه يتمكّن من الطيران متفوّقا على النسور… أتحدّاهم أن يُجرّبوا “مبادئ” التنمية البشرية ضد دبابة الميركافا التي تحرق الأخضر واليابس في طريقها نحو الحدود مع غزّة.  

___ العارضات أزياءهنّ والنّافخات وجوههنّ نفخًا والشّاحطات قدودهنّ شحطًا مبرّحًا والشّافطات شحومهنّ شفطا من أجل استدرار الإعجابات والآهات … هذه الكائنات السيليكونية يُسيئُها جدا أن تتجه كل الأنظار نحو ما يصنعه مغول وتتار العصر الحديث بأطفالنا في فلسطين، فتتقلص مساحات حضورها ويخجل متابعوها من التعبير عن انبهارهم إزاء أجساد مكتنزة وسط مشهد الأشلاء وهُزال ما تبقى من الأحياء.

___ السياسيون الطارئون (على القضايا الكبرى) الذين لم يتجاوز مَعين تكوينهم السياسي بعض الشعارات القائلة بتحقيق التنمية الشاملة وإصلاح القضاء ومقاومة الفساد وتحقيق توازن المالية العمومية والنهوض بالفئات الاجتماعية الهشّة … فراحوا يلتحفون بالكوفيّة الفلسطينية ويهتفون صامدون وصامدون وصامدون (درويش) وهم لا يعرفون أن الملاحم التي يخطّها فلسطينيو اليوم إنّما تستمدّ عنفوانها وديمومتها من تاريخ نضالي طويل منحوت بأحرف من دم في ساحات عمّان واللدّ وبيروت وصيدا ودير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقرى الجنوب اللبناني…وكذلك من أبطال أشاوس دفعوا حياتهم ثمنا لحماية جمرة المقاومة واستمراريتها مثل أحمد موسى سلامة وسعد صايل وأبو إياد وأبو جهاد وأبو عمار وغسان كنفاني وأحمد ياسين وعزالدين القسام وأبو علي مصطفى وسناء المحيدلي ودلال المغربي وكمال عدوان…

___ الإذاعيون والتلفزيونيون الذين اعتادوا على الاستقاتة من المرح الركيك والابتذال السّميك وبيع الماعون وآلات غسل الصابون وتوظيف مصائب الناس وأحزانهم في استمالة جمهور “المُطلّين من الشرفات والفرجويّين” الذين “ينصبون النّصبة وما لازمها” مساءً أمام شاشات تسرد حكايات لا يخلو منها مجتمع لكنها تشدّ انتباه المشاهدين ويُؤثّثون بها غدهم في المقاهي الشعبية واللقاءات النسوية أمام المدارس الابتدائية. هؤلاء فاجأهم الطوفان فظلوا يراوحون مكانهم ويحاولون ركوب موجة الغضب والتعاطف العالية (ولو برداعي) من خلال استهلال مداخلاتهم بجمل مخاتلة من قبيل “رغم المرارة… ورغم ما نشعر به جميعا من أسى وحزن عميقين… سنقف دقيقة صمت ترحّما على أرواح شهدائنا في غزة ثم نعود إلى منوّعتنا …”.

___ وأخيرا هناك فئة سابعة أسمّيها فئة الناس العاديين الذين لا يدّعون في النضال باعا أو ذراعا ولا يُفرّقون كثيرا بين التحريم والتجريم والتطبيع والتطويع، ولكنّ لديهم إحساسا صادقا جدّا بأن ما يجري هناك كأنما يجري لديهم في ديارهم وأن لا أحد في العالم بقادر على إقناعهم بأن أي ردّ فلسطيني لا يمكن إلا أن يدخل في خانة الإرهاب واستهداف المدنيين وعليهم إدانته. هؤلاء متذمّرون هم الآخرون لإحساسهم بالعجز عن مناصرة إخوتهم وإسنادهم ميدانيا أولا ولشعورهم بالمرارة إزاء كافة أوجه حياتهم العادية منذ انطلاق العمليات.

يصارحونك وهم فزِعون أمام مشاهد الدمار الشامل والقتل البارد أن “كل شي مْرار” : العمل والدراسة والرياضة والضحك والأكل والتطويل في الحديث عن القضايا المحلية والتذمّر إزاء فقدان الزيت والسكّر، ولكن في نفس الوقت “مَعْلِشْ” … لأن الفلسطينيين ورغم حجم المأساة التي أغرقتهم في أوحالها متعددة الأوجه حقّقوا نصرا استراتيجيا لم يتحقّق من قبل بهذا الوهج وهذا الوضوح الدّامغ، والمتمثل في إرجاع قضيتهم المركزية إلى جدول أعمال الانسانية رغما عنها وبالشروط التي قد تتجاوز هذه المرة سقف الاتفاقيات التي أنجزت في السابق.

بالنسبة إليّ شخصيا، تقديري أنني أنتمي إلى هذا الصنف الأخير لأنني توقّفت مذّاك عن الكتابة في مواضيع التربية وما جاورها، لإحساس داخلي لديّ بأن ذلك أدنى ما يمكن أن نساهم به كتونسيين في أم المعارك وفي مواجهة التصريحات الوقحة والبشعة لأحفاد بن غوريون وغولدا مائير والتي تقول إن “إسقاط قنبلة نووية على غزّة هو حلّ ممكن كذلك” !!!  

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version