يستغرب بعضهم كيف نواصل بعد أكثر من عقد من الزمن اجترار الماضي والحديث عنه بفخر وسعادة، كيف نتحدث عمّا أنجزناه سابقا…ونسعد ونحن نذكره؟ كيف نتحدّث عن بورقيبة ورجال بورقيبة…عن وزراء بورقيبة وفكر بورقيبة…عن بن علي وكفاءات بن علي…عن استقرار الدولة وأمنها…عن الإحساس والشعور بالأمن…عن كل ما عشناه رغم أننا لم نعش تعددية سياسية حقيقية ولا حرية تعبير كالتي عشناها منذ 14 جانفي…ويسألنا هذا البعض عن حاضرنا ولماذا لا نذكره ولا نفاخر به… وعن مستقبلنا ولماذا لا نتحدّث عنه؟
الإجابة في غاية البساطة، حاضرنا أعرج أعمى وأصمّ …حاضرنا مرهق وموجع وأغلبنا لا يشعر فيه بالأمان، ولا أحد يأتمنه على نفسه وأطفاله ولا حتى ما يملك…ومستقبلنا، نخافه لأننا حُرمنا من التخطيط له… ومُنعنا من أن نفكّر كيف يجب أن يكون…مَن حرمنا يا ترى ومنعنا من أن نبني حاضرا يجمعنا رغم اختلافاتنا…ومن حرمنا من أن نطمح لمستقبل أفضل لأبنائنا؟ إنه السلطان يا سادة…نعم إنه السلطان “قيس الأول” أو كما يحلو لي أن أسميه في بعض ما أكتب…نعم ساكن قرطاج هو من تكفّل بحاضرنا فأوجعنا وتكفّل بصناعة مستقبلنا فأغضبنا، لذلك نحن اليوم أو لنقل أغلبنا رغم ما يدّعيه ويروّجه أتباع السلطان لا نثق في السلطان…السلطان الذي يريد أن يصنع مستقبلنا دون أن يكون لنا رأينا فيه…
مستقبلنا سيكون على مقاس مزاج مولانا، وسيكون حسب ما يريده مولانا…لذلك نرى أغلب سكان هذه البلاد يستمتعون باستحضار واستدعاء ماضيهم كأنه تراث أو إرث لا يمكن نسيانه …فماضينا رغم بعض “سواده” كان أجمل على الأقلّ لأغلبنا، وكان بالشعب رؤوفا رحيما…وحاضرنا ورغم ما اكتسبناه من حرية تعبير ورأي فإنه موجع حدّ البكاء…أما مستقبلنا فهو غامض، ولا نعرف في أي مستنقع أو بئر سنسقط في ظلّ ما نعيشه مع حكامنا اليوم، ساكن قرطاج وعدنا بالويل والثبور… وأذاقنا الألم والوجع بكل الألوان… القلق وجع …والانتظار وجع…والخوف وجع… والريبة وجع… واليأس وجع… والإحباط وجع…والغربة في وطننا وجع أشدّ…أي نعم نعيش الوجع، والألم، والموت بالتقسيط في وطن نسينا ملامحه بعد أن استحوذ ساكن قرطاج على كل مقاليد السلطة والحكم فيه، ومسك بكل مفاصل الدولة وكل السلط، ولم يأت شيئا واحدا يُصلح حال العباد والبلاد…فالرجل يريد أن يفكّر عوضا عنّا ولم يأت بفكرة واحدة يستفيد منها الشعب…كل الشعب…ويريد أن يقرّر عوضا عنّا ولم يقرّر يوما قرارا في صالح البلاد والعباد…كل العباد…ويريد ان يختار عوضا عنّا ولم يختر يوما أمرا يخرجنا مما نحن فيه…مولانا يتعامل معنا كالسلطان وينظر إلينا باستعلاء، وكأننا من عبيده وخدمه…أي نعم، أصبحنا نخاف مستقبلنا ونحن تحت حكم مولانا…فنحن نبحث عن سعادتنا وأمننا في أمسنا…ونبكي حاضرنا لأننا لسنا فيه ومنه…ونعجز عن التفكير في غدنا خوفا من مولانا، وعسس مولانا، وأتباع مولانا، ووشاة مولانا، فقد نتهم بالتآمر على البلاد إن غيّرنا وضعية نومنا وانقلبنا على جنبنا الأيمن…وقد تصدر صحف الغد بعنوان على الصفحة الأولى بالبنط العريض “الأمن يحبط محاولة الانقلاب على السلطان” ونحن لم نغادر غرف نومنا…نعم نبكي مستقبلنا لأنه لأولادنا وليس لنا، خوفا مما قد نكون ونصبح فيه…فلا يحقّ لنا أن نحلم ومولانا لا يعلم بما قد نحلم…فالحلم بمستقبل جميل في عهد السلطان ممنوع دون ترخيص مسبق من مولانا، وبعض ولاة مولانا…
اليوم سأكسر قيودي…كل قيودي لأقول …مولانا من انت حتى تفعل بنا ما تريد … لا ما نريد…؟؟ أتعلم أننا كرهنا العيش في هذه البلاد لأنها أصبحت وجعا وأنت سبب هذا الوجع… فنحن لم نعد نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد وكما تغنّى بها أولاد أحمد… سيقول جماعتك واتباعك ووُشاتك ومن يسترقون السمع أمام منازلنا وعبر هواتفنا ومن أعلنوا البيعة لك إنها خيانة…وإنها عمالة…عن أية خيانة يتحدثون؟ وعن أية عمالة يصرخون؟ فهل أمثالنا لأوطانهم يخونون…وهل من رضع حليب الوطن وأقسم بتراب الوطن يخون الوطن…؟؟ مولانا، أتدري أن الوطن الحقيقي هو الأرض التي يطيب لنا فيها العيش…الأرض التي لا نجوع فيها…ولا يجوع فيها صغارنا…الأرض التي لا نشعر فيها بالبرد شتاء…ولا نشعر فيها بالحرّ صيفا…الأرض التي نشتمّ ربيعا أزهارها…والأرض التي نأكل خريفا بعض ثمارها…الأرض التي طبيب من أهلها يوم نمرض يداوينا…الأرض التي رفاق فيها يوم نحزن يواسوننا…أي نعم مولاي…الوطن هو تلك الأرض التي تقبل بكل أهلها ومن وطئت اقدامهم ترابها…وطننا الحقيقي هو الذي يُسمح لنا فيه بالابتسامة…بالفرح…بحرية التعبير…وحرية الرفض…وحرية أن نقول لا…لا للرئيس ومن هم مع الرئيس…لا لأتباع الرئيس ولمن بايعوا الرئيس….لا لكل قرار لا يرضينا…لا لكل رأي لا نستسيغه…لا لكل أمر لا يؤخذ رأينا فيه… لا لكل ظلم…لا لكل تفرقة…لا لكل إقصاء…لا لكل محسوبية…أتريدنا أن نعتبر وطنا من يُحبط فيه أبناؤنا…ومن يُقهر فيه أطفالنا…ومن يُظلم فيه صغارنا…مولانا أتعلم أن انتخابك رئيسا لا يسمح لك بأن تفعل ما تريد كيف تريد ومتى تريد…فنحن لم ننتخبك لتكون ملكا…ولا سلطانا…لم ننتخبك لتنقلب على نظام أوصلك حيث أنت…لم ننتخبك لتقوّض اركان دولة ولدت فيها، وولدنا فيها…درست فيها، ودرسنا فيها…كبرت فيها، وكبرنا فيها…تزوجت فيها، وتزوجنا فيها…أنجبت الأبناء فيها، وأنجبنا الأبناء فيها…دولة لم تجع فيها، ولم نجع فيها…دولة لم تظلم فيها، ولم نُظلم فيها…دولة لم تعرقَل فيها، ولم نُعرقل فيها…دولة لم تُحبَط فيها، ولم نُحبط فيها…دولة سمحت لك بأن تترشح لرئاستها، وسمحت لنا بأن نختارك…وسمحت لك بأن تكون عليها رئيسا، لا سلطانا…فماذا فعلت مولانا بكل ما انتظرناه منك؟ لا شيء…غير…أنك تريد أن تختار عوضا عنّا…فمن أنت لتفعل ذلك؟ تريد أن تقرّر عوضا عنّا فمن أنت حتى تقرر دون أن نعلم بما تقرّر؟ تريد أن تفرض علينا نمطا سياسيا لا يعجبنا، فمن أنت لتفرض ما تريد علينا؟
مولانا…أنت اليوم تريد إقصاء أكثر من نصف هذا الشعب فقط لأنهم لم يعلنوا البيعة ولا الولاء لفخامتك، ولم يقبلوا بما تفعل وبما فعلت…أهذا دور رئيس جمهورية وعن أية جمهورية جديدة تتحدث، جمهورية للبعض دون الآخر…جمهورية على مقاس من أعلنوا لك البيعة والولاء…والبقيّة هل سنطردهم من أرضهم…من وطنهم…من منازلهم…فكيف تقصيهم ولا تناقشهم ما تريد…وما يريدون…هل يكون التفاوض والنقاش مع من نتفق معهم…أم مع من نختلف معهم لنقترب أكثر ونعمل سويا من اجل مصلحة واحدة…مصلحة شعب واحد لوطن واحد؟ أهذه ديمقراطيتكم التي تعدون بها الشعب في ما تفعلون وما فعلتم…؟؟ اهذه شوراكم إن كنتم من أهل الشورى…؟ أهذه شريعتكم إن كنتم من أهل الشريعة؟ أتدرى ما تعنيه جمهورية جديدة…؟ تعني أرضا واحدة لكل الشعب رغم اختلافاتهم…رغم اختلاف انتماءاتهم…رغم عقيدتهم…رغم ديانتهم…رغم اختلاف لون بشرتهم…جميعهم أبناء جمهورية واحدة ووطن واحد…هل جمعتهم حولك؟ لا…لأنك لست من الذين يبحثون عن التجميع…هل احتضنتهم رغم اختلاف رأيك وآرائهم؟ لا… أنت تريد شعبا يسبّح بحمدك…يصفّق لما تقوله…ولو شتمته أو شتمت بعضا منه…تريد أن تكون سلطانا…ولو كان على بعض الآلاف فقط من شعبك…والبقيّة ألم تفكّر في البقيةّ؟ أسَتُرسلهم إلى البحر تأكلهم حيتان المتوسط؟ أستشجعهم على “الحرقة” لتتخلّص منهم ومن وجعهم؟ أستسجنهم لأنهم رفضوا بيعتك والولاء؟ أستُـنكر عليهم أنهم من هذه الأرض وإلى هذه الأرض سيعودون؟ أستبيعهم في مزاد بيع الشعوب لمن يدفع أكثر؟
أتسمح مولاي أن أسألك…سأسألك وإن لم تسمح…من أوحى لك بكل ما تفعل…وبكل ما تريد؟ من ملأ صدرك حقدا على شعبك…وعلى البعض من شعبك؟ من كذب عليك وقال إن نصف شعبك فاسد ونصفه الآخر خائن…وبعضه عميل…وبعضه الآخر وشاة للسفارات…من وسوس لك أن بعض شعبك سيخونك…وسيتآمر عليك…؟ أتدري مولاي أنك وقعت في نفس الفخّ الذي وقع فيه من جاؤوا على جثة “البوعزيزي” يوم 14 جانفي…هم وقعوا في ما وقعت فيه…فخسروا رهانهم وصدموا بواقع كانوا يقولون عنه سوءا وكتبوا فيه ما لم يقله مالك في الويسكي أو فودكا بوتين…الوطن ليس كيس قمح تهدي بعضه لمن تشاء ومن تريد…الوطن حقل شاسع من الورود الأزهار…تعترضك أحيانا بعض الاشواك…فلا تدسها…فتندم…
أسألك فاسمع مولاي…من ملأ صدرك على كفاءات البلاد…من غيّر رأيك في رجالات البلاد…من ابعدك عمن صنعوا مجد البلاد وخدموا العباد…؟؟ أعرفت حقيقتهم…أعرفت لماذا ابعدوك عن الطريق التي توصلك إلى قلوب العباد؟ هم أوهموك بما يريدون فقط لأنهم يريدونك خادمهم دون أن تكون…هم ورطوك في وجهة ستجعلك سطرا يتيما في تاريخ أمة تاريخها ملايين الكتب…أسترضى أن تكون سطرا في تاريخ أمة بعض رجالاتها ملأت سيرهم عشرات الكتب؟ هم أرادوك وحيدا ليختلوا بك ويحققوا بك ما يريدون وما يضمرون…هم أرادوك وحيدا لتسهل عملية ترويضك لصالح أجنداتهم وما يخططون…هم وجهّوك إلى وجهة خطأ…وجهة استعديت فيها أكثر من ثلثي الشعب…أوهموك بأن الأحزاب خراب…فخسرت الأحزاب وقواعد الأحزاب ومناصري الأحزاب…فماذا أنت فاعل غدا يوم يقول الجميع “لا” لدستورك وجمهوريتك…؟
مولاي…اليوم سأعلنها عاليا “أكرهك”…ولا أقصد طبعا عنوان أغنية كاظم الساهر ولا مقطعا مما غنته وردة من ألحان العظيم بليغ…بل أقصد ما كتبت…نعم أنا اليوم “أكرهك” وغدا قد يكرهك أبنائي…وأحفادي وإخوتي وعائلتي …وغدا قد يكرهك غيري وغير عائلتي…غدا قد نكرهك جميعا…كل الشعب…وربما كل شعوب الدنيا…لذلك أقول…وأنا على يقين انك ستفعل هذه المرّة…ابحث في من هم حولك ومن عاشرتهم ومن عرفتهم طيلة فترة تفكيرك في الانقضاض على الحكم انتخابا ثم الاستحواذ عليه انقلابا…أقول ابحث في جميع من هم حولك من خدعك منهم وأوصلك إلى ما انت فيه اليوم…إنهم يخدعونك…وغدا سيتركونك لمصيرك…فعد إلى الشعب كل الشعب…فإن اخترت أن تكون رئيسا لاتباعك فقط…فتحمّل تبعات ما تريد…وما يريده شعبك الذي اخترت…وإن عدت إلى “وعيك” الذي كان فسنعود جميعنا نحبكّ…وسنحمل معك كل أتعاب السفر…وكل أثقاله…وسيبقى الوطن خيمتنا جميعا…
وأرجوك مولاي…لا تقل لي إن الدستور يمنعني من أن أكرهك، فكيف لدستور لم يمنعك أنت رئيس البلاد والوصي على كل العباد، والمطالب بحب كل الشعب الأحرار منهم والأوغاد … أقول كيف لدستور لم يمنعك أنت من الحقد على أكثر من نصف شعبك أن يمنعني انا المواطن الذي انتخبك، مِن كُرهك …فالدستور مات ودفن ونسينا أن نقرأ عليه الفاتحة…ولا تقل لي إن القانون يمنعني من أن أعلن كرهي لك…هات لي نصا واحدا يمنعني من كرهك…أكرهك وغدا يكرهك أحفادي …وغدا تعاد كتابة التاريخ دون ذكر اسمك وقد لا يقرأ احفاد أحفادي اسمك في تاريخ بلادي، إن عادوا يوما إليها…فهلاّ استفقت قبل فوات الأوان… فقط لتعلم قد أكرهك اليوم…وأعود لأحبك غدا يوم تستفيق من غفوة طالت بكيد بعضهم او بكيد من لا يعلم أن الأوطان لا تدار ولا تبنى بالأحقاد…فالأحقاد هي سلاح الأوغاد …وأنا على يقين مولاي أنك لست ولن تكون منهم…
مولاي…أتقرأ هذا…؟ لم أكتب ما كتبت طمعا في هدية أو منصب او خطّة وظيفية منك ومن حكومة “الخالة نجلاء” أو “العمّ مالك” الذي يحوم حول القصبة، لا لم أفعل ذلك في عهدي بورقيبة يوم كنت صديقا للجميع ولبعض وزراء الزعيم، ولم أطلب ذلك من بن علي ولا من وزراء بن علي فلا أحد منهم دفع لي ثمن فنجان قهوة “كابوسان” في مقهى محطّة سيارات اجرة ولايات الجنوب او حتى مقهى المحطّة المركزية للسكك الحديدية…تصوّر ان احد أقرب الناس لبن علي سألني يوما غاضبا ” شبيك ما تطلب شيء لروحك” …لا تظنّ ابدا أني ممن يطلبون هدية أو خدمة أو مصلحة لهم أو لأحد أبنائهم….لا أبدا أنا هكذا كنت وهكذا أبقى…فقط أنا أريد ان اضمن يوم يطلب الله أمانته، ويقول لي حان اجلك عبدي فتعال إلى خالقك، أن يكون كل أبنائي حولي غير ممنوعين من السفر ولا ممنوعين من دخول البلاد فقط لأن والدهم ضدّ السلطان ولا يحب السلطان ويكتب عن السلطان ما لا يعجب ويرضي وشاة السلطان وأتباع السلطان…أي نعم لا أريد ان تزر وازرة وزر أخرى فأحرم من أن أودّع أبنائي يوم تحين ساعة الوداع…أفكّرت أنت مولاي في يوم الوداع…أرجوك فكّر في ذلك اليوم فكلنا مغادرون…وكلنا إلى خالقنا راجعون …فكن عادلا…ولا تظلم فأنت بما فعلت وتفعله اليوم ظالم وقد تكون لا تعلم…وأتباعك يصفقون…فبعضهم للظلم يعشقون…سأكرهك حتى اشعار آخر…وأنا علي يقين أنه ليس ببعيد …مولاي…