تابعنا على

جور نار

سيدي الرئيس … أنا لا أحبّك حتى إشعـــــار آخر !

نشرت

في

سألتني حفيدتي “لماذا لا يضحك الرئيس ولماذا هو دائم الصراخ…أنا أخافه حين يخطب…أنا لا أحبه” قلت أنا أيضا لا أحب الرئيس وأخافه…وأخاف على تونس منه…هكذا كانت بداية حواري مع حفيدتي التي واصلت لتقول: “هل يجب أن أحب الرئيس جدّي؟” قلت لا بُنيتي الدستور لا ينصّ على حبّ الرئيس أو كرهه…الدستور ينصّ فقط على حبّ الوطن…والوطن ليس الرئيس…الوطن ثابت خالد إلى الأبد…والرئيس متحوّل…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

أي نعم…أنا لا أحب الرئيس…سيسألني بعضكم لماذا؟ سأقول…لا أحب الرئيس لأنه ومن خلال ما يأتيه لا أرى أنه يحبني…فماذا سأقول غدا لو سألني أحفادي حين يكبرون ويعرفون الحقيقة، لماذا ساندت رئيسا انقلب على شركائه…وانفرد بالحكم؟ ماذا سأقول لهم لو سألوني كيف رضيت بأن يحكم البلاد شخص انقلب على شركائه، فقط، لأنه يريد تعديل الدستور قصد توسيع قائمة صلاحياته…؟ ماذا سأقول؟

كيف لي أن أحب رئيسا لم ينجز وعدا واحدا من وعوده؟ كيف لي أن أحب رئيسا لم يسلم من لسانه خصم واحد من خصومه؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا برنامج له غير ضرب خصومه ورفع الشعارات التي لا أحد يصدقها، ولا أحد يصفّق لها غير من لا يفقهون في الدولة وشؤون الدولة ومن كلفوا بمهمّة التصفيق؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا برنامج له غير الخطب النارية الناسفة للخصوم؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يأت إلى ساعتنا هذه بما يفيد البلاد والعباد؟ كيف لي أن أحب رئيسا أفسد علاقاته مع كل مكونات المشهد السياسي التونسي؟ كيف لي أن أحب رئيسا ما يأتيه يوحي بأنه سيقلب النظام إلى شبه نظام ملكي لا أحد يشاركه فيه الحكم؟ كيف لي أن أحب رئيسا يحارب المحاصصة السياسية في خطبه ويمارسها في تعييناته الجهوية والوطنية؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يعترف بكل من سبقوه في الحكم، وكأن كل شيء بدأ يوم وصوله إلى الحكم؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا اختار أن ينقلب على شركائه لينقذ نفسه ويستحوذ على كل السلطات التي لم يمكّنه منها الدستور، الذي به أصبح رئيسا، وبأحد فصوله انقلب على شركائه، ومنه يريد اليوم التخلّص؟

كيف لي أن أحب رئيسا أضاع الوقت على البلاد والعباد ولم يفعل أمرا واحدا يخرجها مما هي فيه؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يعرف أين يبدأ الحق وأين ينتهي، فكل ما يأتيه هو الحق…وكل ما يأتيه خصومه باطل وعلى غير حق؟ كيف لي أن أحب رئيسا يرى أن سعادة وازدهار البلاد في أن تكون كل سلطاتها في يد شخص واحد؟ كيف لي أن أحب رئيسا يريد أن يكون المتحدّث الوحيد باسم الشعب، والناطق الوحيد بما يريده هذا الشعب؟ كيف لي أن أحب رئيسا يكره الأغنياء ويرى أن جميعهم نهبوا البلاد، وأن عليهم إعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب، أي شعب هذا الذي سرقه الأغنياء…كل الأغنياء؟ كيف لي أن أحب رئيسا يتصرّف وكأنه الملك أو السلطان، لا يقبل من يتحدّث معه ولا من يناقشه، فهو الوحيد الذي يتكلّم وعلى الجميع الاستماع لما يقول؟ كيف لي أن أحب رئيسا أصبح ضحية لأشخاص أحاط نفسه بهم، ووثق بهم، فاستطاعوا أن يعزلوه دون أن يدري عن الشعب، وعمن يمكن لهم إفادته ومساعدته عن كيف تدار شؤون الدولة؟

كيف لي أن أحب رئيسا صدّق بعض من قدموا له معلومات واستشارات كاذبة وملغومة كانت السبب في أخذ بعض القرارات الخاطئة، التي قد تضرّ لاحقا بشعب مطحون لم يجد من يشعر بمعاناته؟ كيف لي أن أحب رئيسا يعرف جيدا معاناة الشعب، ويكشف عن ذلك في كل دروسه الوزارية عفوا في كل مجالسه الوزارية، ويقبل بأن يستمر هذا الوضع على ما هو عليه بما يروّج عن قانون مالية سيزيد من أوجاع الشعب وآلامه؟ كيف لي أن أحب رئيسا يريد تمويل ميزانية الدولة بما في جيوب الشعب وبما ادّخرُوه في أرصدتهم البنكية؟  كيف لي أن أحب رئيسا صدّق من أوهموه بأن للدولة أموالا بالمليارات نهبها رجال الأعمال، وأخرى مهرّبة هرّبها هؤلاء أيضا؟ كيف لي أن أحب رئيسا صدّق كل ما يقال له عن أحوال البلاد الاقتصادية وعن أوضاعها المالية، إلى درجة أنه لا يزال يصرّ أن البلاد غنية ولا تخشى من الفقر؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا كثر في عهده الذي لم يتجاوز الستّة أشهر التخوين والتهويل والأحداث المفبركة، والروايات الخيالية وسياسات الإلهاء، وتحويل وجهة الشعب بالإعلام والقوادين والأتباع والمصفقين؟

كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يلتفت إلى يومنا هذا لمشاكل الشعب الحقيقية، في الصحّة… والتعليم …والتشغيل… والعيش الكريم… والكرامة والعدالة ورفع المظالم… وغلاء الأسعار والمحسوبية في الانتدابات… والتوريث في الشغل والحرقة والتهميش؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يع إلى يومنا هذا أن هذا الشعب هو وحده من يدفع ولا يزال ضريبة عشر سنوات من الحكم غير المسؤول؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يحرّك ساكنا أمام رغبة أتباعه في الانتقام والثأر وإقصاء كل من حكموا البلاد منذ موت السكّير وقبله؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا ملأ بعضهم صدره حقدا على كل من سبقوه في الحكم، فحوّلوا وجهته من التفكير في انقاذ البلاد من أزمتها، إلى كيف يتخلّص من خصومه ويبعدهم عن طريقه قبل الانتخابات القادمة؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا أوهمه بعض من هم حوله أن كل ما يـأتيه عقلاني ومنطقي وحكيم، وكل من يعارضونه فيه هم على باطل؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يع إلى يومنا هذا أن المناخ الاجتماعي على فوهة بركان، وأن الانفجار قادم لا محالة، وأن ظهر الشعب المطحون لامس الحائط ولا مفرّ من المواجهة في قادم الأيام والاشهر، إن لم يدرك الرئيس خطورة المرحلة؟

كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يقرأ دروس الماضي جيّدا، ولم يدرك أن تأخر خروج الشعب على حاكمه ليس جبنا ولا خنوعا ولا حنينا لحكم الرجل الواحد وسلطة “الماتراك” ولا كرها في خصومه، بل حكمة وخوفا على تونس من فوضى قد يستفيد منها من يقتاتون من الفوضى والخراب؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لم يعرف خطورة أن يجوع شعبه، عليه وعلى الدولة وعلى مستقبل الوطن والأمّة؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا يعتبر كل من يعارضه “إخوانيا” من أبناء الغنوشي وفاسدا وانتهازيا وخائنا ومتآمرا وله أجندات خارجية ومدفوع الأجر، ويعتبره ناكرا للجميل وجحودا لا يفاخر بما أنجزه رئيس البلاد منذ استحواذه على حكم البلاد ورقاب العباد؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا يعتبر نفسه أقدر وأعلم من الجميع بما يجب أن يقوم به من أجل البلاد؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لا يعترف بقامات البلاد ولم يفكّر في تشكيل هيئة من حكماء البلاد ينصحونه ويفيدونه بما لهم من تجربة، وخبرة، وتاريخ، ويستشيرهم في كل ما يفيد العباد والبلاد؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا يرى أنه أكبر من الدولة ومن قامات الدولة، ومن تاريخ الدولة، ويريد إعادة كتابة التاريخ لنفسه على مقاسه؟

كيف لي أن أحب رئيسا يعتبره البعض رسولا بقولهم “لا ينطق عن الهوى” وهو إنسان يصيب ويخطئ؟ كيف لي أن أحب رئيسا يفاخر ويعتبر تغيير يوم الاحتفال بذكرى انقلاب 14 جانفي إنجازا يحسب له ولعهده؟ كيف لي أن أحب رئيسا يعتبر إقصاء خصومه انجازا يعطيه الشرعية الكبرى ويجلسه ملكا على البلاد والعباد؟ كيف لي أن أحب رئيسا قد تشعل كل خطبه نار الفتنة بين أفراد هذا الشعب؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يحب أحدا من مكونات المشهد السياسي، وهو الذي كان شريكا لهم؟ كيف لي أن أحب رئيسا لم يظهر الحب لأي مواطن تونسي من شمال البلاد إلى جنوبها من غير أتباعه، فمن يكره حزبا يكره أتباعه، ومن يحقد على حركة يحقد على أتباعها؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يريد استخلاص تجربة المغفور لها “عشرية الخراب” بأخطائها وبفوائدها حتى لا نكرر هذه الأخطاء ونستفيد من الفوائد؟ كيف لي أن أحب رئيسا لم يأخذ العبرة من الذين سبقوه من الرؤساء السابقين فهل سينتظر أن يمر بنفس التجربة بتبعاتها واسقاطاتها؟

كيف لي أن أحبّ رئيسا أقام بينه وبين الجزء الأكبر من شعبه الذي لا ينتمي لتنسيقياته حائطا من الفولاذ الذي لا يمكن اختراقه؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا أحاط نفسه بمجموعة من المنتفعين ممن ينقلون للحاكم صورة مخالفة للواقع الذي يغلي خلف الجدار الفاصل بين الحاكم والمحكوم؟ كيف لي أن أحب رئيسا يرى في حجم من انتخبوه شرعية تسمح له بحكم البلاد والعباد كما يريد، وكيف يريد، وبالصيغة الذي يريد، وللمدّة التي يريد؟ كيف لي أن أحب رئيسا يصدّق من أتباعه من يوهمه بأن الشعب يأكل حتى التخمة…وسعيد بسعيّد ولا ينقصه شيء في ظلّ حكمه العادل، ولا يرغب في سماع من يقول له إن المجاعة على الأبواب والإفلاس يدق الباب؟ كيف لي أن أحب رئيسا لا يرغب في سماع أي صوت سوى صوت الوصوليين، ومن لا ينقلون له سوى ما يرغب هو في سماعه؟ كيف لي أن أحب رئيسا يصدّق من يقول له ومن يهتف باسمه قائلا إن الله اصطفاه وفضله على غيره من البشر تفضيلا…وأن حكمه سيدوم بإذن الله طويلا؟

كيف لي أن أحبّ رئيسا لا يدرك أن الشعوب حين تجوع وتُظلم وتُحرم من أبسط حقوقها تحمل في طياتها طاقة هائلة قابلة للانفجار في أية لحظة؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا لا يؤمن بأن الملك لا يدوم لأحد وأنه لو دامت لغيره لما آلت إليه؟ كيف لي أن أحب رئيسا انقطع عن الاتصال بمن يخالفه الرأي وبمن لا ينتمي لتنسيقياته واكتفى بملاقاة من هم معه ومن بايعوه فقط؟ كيف لي أن أحبّ رئيسا نسي محاسبة التاريخ ونسي أنّ من لم يترك إرثا ديمقراطيا عظيما لن كيف لي أن أحب رئيسا تخافه حفيدتي وهو يخطب…فكيف لا أخافه وهو يحكم…؟ كيف لي أن أحب رئيسا لم يعلن حبّه لهذا الشعب كل الشعب… بخصومه… بأعدائه… بمن لا يحبونه …وبمن يكرهون حتى مجرّد ذكر اسمه…؟تخلّده كتب التاريخ، ولن يُذكر اسمه في محافل التاريخ؟

في الأخير أقول هذا رأيي قد يتفق معي فيه عدد ممن انتخبوا الرئيس، وقد يختلف معي فيه عدد ممن انتخبوا الرئيس أيضا، هو استغلال شرعي لمساحة من الحرية مكنني منها دستور البلاد…قد يغضب مني الرئيس ويسجنني وحينها يكون لعدم حبي للرئيس ولخوفي مبررا ودليلا…وقد لا يغضب منّي الرئيس وحينها سأروي لحفيدتي أن الرئيس يضحك مثلنا…ويبتسم مثلنا…ولا موجب للخوف منه…

ولأنني لا أحبّ الرئيس أقول له، إن الحقد والكره والفتنة والانتقام والثأر والإقصاء كلها كلمات وجب حذفها من قاموسنا يوم نجلس على كرسي الحكم…وعليه أن يعلم ويشعر بما عاناه أغلب من انتمَوْا لمنظومة الاستقلال والتحديث منظومة بورقيبة وبن علي رحمهما الله بسبب الرغبة الجامحة في الانتقام…والحقد الذي امتلأت به بعض الصدور…عليه أن يعلم أن هؤلاء خسروا كل شيء…وخسرتهم البلاد بما لهم من تجربة…خسروا أنفسهم…وماضيهم وحاضرهم…ومستقبل أبنائهم….وأملاكهم…وما ملكت ايمانهم…وسُحلوا وأُطردوا من مراكز عملهم…وسُلبوا حقوقهم…وحُرموا من خططهم الوظيفية…وعاشوا الرعب تحت رحمة المحاكم الشعبية (رابطات حماية الثورة) فقط لأنهم كانوا يحكمون وينتمون لمنظومة حاكمة لم تكن بالسوء الذي روّجوه عنها…والأسوأ، والأغرب، والأكثر وجعا أنهم حُرموا من مآثرهم وما أنجزوه من أجل هذا الشعب وهذا الوطن…وأعاد التتار والوندال والمغول ومن معهم كتابة التاريخ على مقاسهم…فهل تريد أنت أيضا أن تفعل ما فعله التتار والوندال والمغول والبعض الآخر لمن سبقوهم في الحكم مع من سبقوك في الحكم ومن شاركوك فيه لفترة…هل تريد أنت أن تستحوذ على التاريخ كما استحوذت على الحكم بالانقلاب على من كنت تشاركهم الحكم؟

لا أظنّ أنك ستفعل…وأظنّ أن العقل سينتصر على المزاج…وأنك ستستمع إلى روح العقل…وتحب شعبك بكل من فيه…بمن لم ينتخبوك…ومن لا ينتمون إلى حزبك القادم سرا على أطراف قدميه…ومن يكرهون مجرّد الحديث عنك…ومن سيحاربونك في قادم الأيام على كسب ودّ الناخبين…لأنك ستدرك أنك بالحبّ وبالحبّ وحده…وبالحبّ فقط ستُبْقى اسمك راسخا في أذهان هذا الشعب…وبالحبّ فقط ستكتب اسمك في كتب التاريخ…وبالحبّ فقط سيتحدث عنك الشعب يوم تترك الكرسي…فالإنسانية حبّ…والديمقراطية حبّ….وحكم الشعوب حبّ…فارفع لواء الحبّ لتُجنّب البلاد تبعات الحقد والانقسام….وحّد الشعب بالحبّ…وعلى الحبّ…وكن رئيسا لمن تحبّ…سيحبك من تحب…فمن يصفقون اليوم لغضبك….وتشنجك…وتهديدك…ووعيدك…إنما يصفقون لأنك ستخلصهم ممن يختلفون معهم…فلا تكنْ خصما لأحد…كُن رئيسا وصديقا وأخا…لكل الشعب…

أتريد ان يكتب من سيحكمون بعدك التاريخ على مقاسهم…ويحذفوا كل مآثرك إن تركت…وكل إنجازاتك إن أنجزت؟ وإلى ذلك اليوم…ولأنك إلى يومنا هذا خارج التغطية أمام مشاكل البلاد والعباد وأوجاع الشعب ومعاناته الحقيقية…فأنا لا أحبّك ولن أحبّك…حتى اشعار آخر…أتمناه قريبا…إن أردت…فأعلن حبّك للجميع يحبّك الجميع…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار