كلّ نار

سَعيُكم …

نشرت

في

مدرستي حان الرحيـل و آن أن نفترقــــــــــا

هيا نردّد يا زميل: إلى اللقا، إلى اللقا …

هذه الأنشودة القديمة جدا يبدو أنه كُتب لها عمر جديد هذه الأيام، بل و تصبح “التوب” الأكثر انتشارا بين كل الأغاني، تونسيا و عربيا و في أي مكان  … للتذكير، فإن هذا النشيد الذي شهد بعض التعديلات على كلماته، هو من تأليف الشاعر الجزائري الأخضر السايحي، و تلحين لمين البشيشي، و كان عبارة عن لحن مميز لشارة برنامج للأطفال في تلفزة الجزائر، عنوانه “الحديقة الساحرة” و نجمه الذي يعرفه أطفال تلك المرحلة … حديدوان …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

يطوف هذا النغم على المواقع بأثواب عدة و مضارب متباعدة جغرافيا، و لكن يجمع بينها نفس السيناريو، نفس الدراما، نفس التراجيديا … مأساة تلاميذ و تلميذات يودّعون و يودّعن معلّما أو معلّمة أو مدرسة أو رفاقا أو ببساطة، سنة دراسية … و لا تسل عن الحناجر التي شرقت، و لا الدموع التي ذُرفت، و لا الأيدي الصغيرة و هي تكفكف كل هذا و كأنها تُحرم من عزيز غال … و بعد هذا، أليس معلّمونا هم أعزّ الأعزّة؟ أليست مدارسنا الطفولية هي أغلى ما بقي في صدورنا من ذِكَر؟ أليست كتبنا المدرسية العتيقة هي الحجر الذي يدوم في الوادي، وادي الصغار و الكبار و حتى بعض رؤساء الجمهورية في خطاباتهم و هم يشارفون على السبعين؟؟

معلّمونا إذن هم الآباء و الأسياد و الدائنون و نحن المدينون لهم بكل جميل … أي و الله … و يبقون إلى اليوم كذلك و لو جاءت منهم أجيال هي الآن في سن أبنائنا، و لكنني شخصيا ما زلت أقابلهم بنفس الخشوع الذي كان لي حيال مدرّسي طفولتي في القرن الماضي … و لا أقدر صراحة على مناداتهم بأسمائهم هكذا (حاف) فضلا عن مُعاركتهم و مُحاجّتهم حول عدد لولدي أو شكوى منه، كما صار يفعل كثيرون من أولياء الأمور في هذا الوقت الأجرب …

 لا تقل لي معلمو الأمس كانوا أفضل أو أفقر أو أكثر قناعة أو أكمل إخلاصا لمهنتهم … أبدا، فمدرّس اليوم قادم من الجامعة، يعرف ماركس و أنغلز و نيتشة و برودون، و أيضا المودودي و قطب و الخميني … و يعرف أيضا ـ بحكم التطور الزمني ـ الإعلامية و المعلومات و البحث في صفحات غوغل … و يفهم في السياسة كما صرنا نفهم جميعا و نتفقّه بعد 2011 … أما سابقا، فعديدة هي المعطيات الخاطئة التي أخذناها على أنها من المسلّمات و ثبت بطلانها … أحد معلمينا طيّبي الذكر كان مثلا يفسّر لنا جملة “فأزاح القتام” (من أنشودة تحكي عن نجمة في السماء تلمع فتضيء الظلمة) على أن “القتام” (أي الظلام) هو غبار خفيف لا يُرى إلا بتسرب الشمس من خلال نافذة … رحمه الله تلك حدوده المسكين، و مع ذلك كم أحببناه و نحبه إلى الساعة …  

أما عن مسألة العفّة التي كانت للقدامى دون المحدثين، فالمسألة هنا أيضا ليست بديهية … أولا، أجور الأمس كانت أرفع بكثير من اليوم في التعليم خاصة و الوظيفة عامة … ثلاثون دينارا أو أربعون في ذلك العهد يمكن ضربها اليوم بسهولة في مائة و حتى أكثر … فارق الأسعار مهول و المعيشة بعيدة جدا عنها اليوم … عامل يومي بـ 300 مليم و باكو سميد، كان يعيل أسرة من سبعة أفراد، و حساب السوق كان بمئات الملاليم و عشراتها و حتى المليم التونسي كان يشتري شيئا و يضاف إلى سعر و يعاد في بقية … لذلك كان المعلم نضر الوجه ثمين الهندام مصنفا في علية القوم …

ثانيا و أهمّ، معلّم ذلك الزمان كان يحظى بثقة الجميع … السلطة تحميه و المنظومة العمودية تكرّسه و الأولياء يهابونه … لا يطلب مالا لأنه غير محتاج، و لكنه أيضا لا يرفض تبجيلا في قضاء حاجات، أو هدايا عينية متنوعة يجود بها أهالي أريافنا و مدننا كل على قياسه … منتجات فلاحية، صوف في موسم الصوف، زرابي، ما يجلبه مواطنونا بالخارج … فضلا عن المحاباة في جودة مشتريات السوق، و في إيصالها حتى البيت، و حتى في سعرها المخفّض عمدا … و على ذكر الإيصال، كان يوم المُنى أن يحمل أحدنا ـ نحن التلاميذ ـ محفظة المعلّم أو طقم كراساته أو يساعده في تقييد الحضور و هذا ما سُمّي في الثانويات برئيس القسم …

الآن الدولة أفسدت كل شيء … بقي المعلم يُملي و التلميذ يكتب، و المعلّم يمتحن و التلميذ يخضع لعدد به ينجح أو يرسب … و لكن السلطة سُلبت تماما من هذا الذي يُملي الدرس و يُجري الامتحان و يقرر النجاح … نظامنا و باختيارات سياسية خطرة، حوّل التربية و المربّي إلى سلعة لها ثمن، و التلميذ إلى زبون، و الزبون إلى ملك … ملك على أمه و أبيه، و ملك على معلّمه الذي صار يدا سفلى بعد أن كان الأعلى، و صار يتلقى التهديد بدل أن يهدِّد، و صار شغّالا من الشغّالين بعد أن كان في مرتبة الأنبياء …

دولتنا هي التي رذّلت المدرسة و المعلّم و العلم عامة، فكان أن تحوّل هذا الفيض الزكيّ إلى لعبة اختلط فيها السياسي بالنقابي بالاقتصادي … فباع النظام قطاعات استراتيجية خالصة كالصحة و التعليم إلى قطاع ريعي خاص على غاية الجبن … قطاع خاص بدل أن يستثمر أمواله في صناعة وطنية و خلق ثروات، راح يتواكل على تجارة أبدان الناس و عقولهم … و يستغلّ استقالة الدولة الفاسدة ليقتل حاضر البلد و مستقبله و يتقاسم الفريسة … و ها نحن نرى نتائج كل هذا، لا، لم نرَ شيئا بعد …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version