تقدِمة: في مطلع هذا العام الشبيه بكل مطلع و كل عام من حياتنا العاصفة، هممت بالكتابة عن حالنا وحال حكّامنا معنا، و حالهم أيضا مع رياضتهم المفضلة و هي اللعب بالكراسي و فوق الكراسي و الطاولات، تاركيننا تحت الأرجل كقطط المطاعم أو بعوض السباخ، نلتمس الرزق أو نُركل أن نُنشّ أو نموت لا يهمّ … غير أن أحد الأصدقاء القرّاء عنّ له أن ينشر مقالا لي سبق أن نُشر ضمن صفحة قديمة من “عيدان الكبريت” … أعدت القراءة على مضض ففي اعتقادي أنه ما فات فات … و لكنني وجدت أنني لن أكون اليوم أصدق من البارحة، و أنّ أولياء أمرنا يخرجون لنا بنفس الوجه، و لا يستحقون منّا سوى نفس المرآة … لهذا، ها أنا أستسمح من بقي وفيّا رحب الصدر من القارئين، و أعيد نشر هذا الكلام الذي قلته منذ ثلاث سنوات يوما بيوم تقريبا، و بالحرف …
منذ يومين، مرت ثلاث و ثلاثون سنة على انتفاضة الخبز … و هي للتذكير كانت ردة فعل منطقية على زيادة سعر مشتقات الحبوب … و خاصة الخبز الذي قفز سعره فجأة في أواخر 1983 من 80 إلى 170 مليما … رقم يبدو زهيدا اليوم و لكنه كان لكمة عنيفة إلى وجوهنا في ذلك الوقت، و الأجر الأدنى كان لا يتجاوز الستين دينارا في حين أنه الآن في حدود 340 دينارا … يعني كأنْ يصبح سعر الخبزة اليوم 1400 مليم مثلا، مع ما يرافق ذلك على مستوى الدقيق و العجين الغذائي إلخ … و بالتبعية كل المواد الاستهلاكية الأخرى، غذائية كانت أم غير غذائية، عملا بقاعدة تداعي الأسعار … و هذا ما كانت ترمي إليه نصيحة صندوق النقد الدولي التي أذعنت لها حكومتنا، و هذا أيضا ما فهمه المواطن التونسي في طرفة عين … و انطلقت شرارة الأحداث في أقصى الجنوب التونسي (دوز تحديدا) لتشمل فيما بعد كل ولايات البلاد وصولا إلى العاصمة ...
عندما كانت الانتفاضات … كلمة حق يُراد بها حقّ
و بعد واحد و عشرين يوما من لحظتنا هذه، ستعود بنا الذاكرة قرابة الأربعة عقود إلى اندلاع أدْمَى مواجهة رأيناها بين مطالب شعبنا و سلطة النظام المسلحة … انتفاضة الخميس الأسود أو الأحمر، 26 جانفي الأليم العظيم، معركة استقلال اتحاد الشغل عن الحزب الحاكم و كل الأحزاب الحاكمة التي جثمت وتجثم على بلادنا … كانت أقرب إلى معركة تحرير وطني منها إلى مواجهة اجتماعية قِوامها أجور و أسعار و ظروف عمل … هكذا ظهرت الحقيقة بعد أن تطور نزاع الاتحاد وحكومة نويرة، و هكذا تعاملت عصا الحكم مع المحتجين بكل ما تملك من حديد ونار و آلة دعائية و حزبية … بل تجاوزت رغبة الاستقلال اتحاد الشغل لتشمل كل بلادنا التي أحست أنها كانت تعيش تحت وطأة استعمار من نوع آخر … استعمار محلي متضـامن مع الاستعمار الخارجي، استعمار وكلاء و سماسرة و عملاء، استعمار جديد …
و بين هذين التاريخين، أي يوم السبت القادم، تمرّ 6 سنوات على ما اصطلح على تسميته بالثورة التونسية … حدث هائل زلزل كامل المنطقة و وصلت موجاته إلى أبعد نقطة في الأرض … كنا ـ و لا نخفي ذلك ـ من المبتهجين لهذا الحدث و كان الأمل كبيرا … سقط نظام كقصر من ورق و لكننا تشبثنا بالدولة ومرافقها ومؤسساتها … و كان الاعتقاد أن تونس ستصبح أنقى و أصحّ و أقدر على دخول القرن الجديد … و نسينا أن لنا بالخارج رصيدا من أعداء الاحتياط سيحطّون الرحال بدل الذي سافر … و أننا تخلّصنا من قطرة ظلم لنقع تحت مزراب إبادة … و أن آمالنا و أحلامنا و عواطفنا الرقيقة لم تكن في قوة هذه الجحافل الجرّارة و عيونها الحانقة و عضلاتها المدججة … فضُرِّسْنا بأنياب و وُطِئْنا بمَنْسم، و تعاون على تشريحنا جلاّدون من كل الجنسيات، و استبيحت حدودنا و ضاع الفُـتات من أمننا و انتُهكت سوقنا و زدنا فقرا على فقر … و تكاثر بيننا الآسفون و النادمون حتى على الطاغية الذي سقط في بداية 2011 …
عندما يطلع النهار
جانفي، يناير، كانون الثاني و باقي التسميات … شهر تونسي عصبيّ فوّار بامتيـــاز، و موعد فصلي تستيقظ فيه جوارح بني شعبك يوم تكون كل الكائنات في حالة بَيات شتوي … الشعوب الأخرى تثور في الربيع أو في الصيف أو في خريف الغضب، و الأمثلة تتراوح من ثورة 14 جويلية الفرنسية إلى ثورة 25 أكتوبر الروسية وبينهما ثورات ربيع الشعوب … أما في تونس، فلا يكاد النوم يعانق سكان قصريْ قرطاج و القصبة منذ نصف قرن و كلما اقترب هذا الشهر العاصف … و ليس للمسألة من تفسير بيولوجي أو حتى ثقافي، بل كل الحكاية أن حياتنا مرهونة بجيوبنا، و أن جيوبنا عطاؤها و شحّها مرتبط بصلاح أو فساد ميزانية الدولة … وميزانية بلادنا يبدأ تنفيذها في أول جانفي من كل سنة، و هناك بالضبط تُكرم حكوماتنا أو تهان … صحيح أن النخب تكون مطّلعة على أطوار إعداد الميزانية و مناقشتها منذ أشهر … و هي عليمة بما يُحاك في الأروقة وجولات الذهاب و الإياب مع الصناديق الدولية، و ما يميل إليه نظام الحكم من سياسات و توزيع للثروة بين أهل غنائم و أهل ضرائب و ضرب … و لكن لا أحد تقريبا يسمعهم، و لا يفيق مواطنك الغافل إلا حين تقع الواقعة … و الواقعة طبعا هي إجراءات يبدأ تنفيذها القاسي مع أول السنة …
و هكذا توالت إجراءات التعسف سنة بعد سنة، و جانفي بعد جانفي، و انتفاضة بعد انتفاضة … و لكن نظامنا السيـــاسي بدل أن يتغير بالشكل الذي لا يصطدم فيه مع الشعب، و بدرجة تجعل منه خادما مؤتمنا على مصير ملايين الرقاب … بدل كل هذا، كان نظامنا ضليعا في التأقلم مع الأحداث و مداورة المصاعب دون حلها، و مراوغة أصحاب الحق بعد أن يكون استنفد كل حلول القوة و البطش التي يبادر إليها كلما ثار الناس عليه … و هكذا تفرّجنا طول عمرنا على ما يشبه مسرحية الممثل الواحد بمائة شخصية … و تلعب أكسسوارات التمثيل دورها كما لم يسبق لها أن لعبت … فمن هنا أكداس من الفريب، و من هنا أضواء بكل ألوان الطيف، و من هنا أقنعة بجميع صنوف الحيوان و الطير، و من هناك أصوات تتراوح من القرار إلى الجواب، و من تلك الجهة آلاف من حركات اليد و تعابير الوجه و حتى دمعات العين و الحنجرة المتهدجة حين تقتضي الحال …
يرتدي نظامنا في الأول ملابس المناضل محرر البلاد القائد الظافر القاهر الطارد للمحتل الأجنبي … تنطلي اللعبة بضع سنوات يغرف خلالها لنفسه و لقوى الاستعمار المنسحبة ما تم الاتفاق عليه بعيدا عن العيون و الآذان … يعاني الناس من فقرهم الجديد و تبدأ أولى مشاعر الخيبة، فيخرج النظام ورقة الجلاء العسكري ويتخلص في الأثناء من بعض أصوات النشاز … تهدأ الحال سنتين أو ثلاثا ثم يلحّ الفقر و يعود التململ، فتخرج للعامة ورقة الجلاء الزراعي و إيهامهم بأن الثروة ستتوزع بالعدل على الجميع مواكبة لموضة الاشتراكية … و بالمناسبة، يتغير اسم الحزب الحاكم ليأخذ من أنظمة أوروبا الشرقية شعاراتها و منظومتها الشمولية البوليسية … حزب واحد، قائد واحد، شعب واحد … و لا بأس في الأثناء من حشر العشرات داخل معتقلات موروثة عن زمن الاستعمار و يرتع فيها الظلام الدامس و رفيقته الرطوبة الخانقة، تحت موسيقى من صليل السلاسل و قرع السيــــاط …
نظام واحد … بمائة قناع
و عندما تنفد هذه الجعبة بعد سنوات أخرى، و يتبيّن الحمل الكاذب و الاشتراكية المزوّرة … وقتها، يتمارض الزعيم أو يتماوت و يصيح أنصاره مشفقين لقد خانوا ثقتك يا قائد … و تخرج في الحال ورقة الزعيم الطاهر المطعون من خلّف، و يُقاد إلى الخشبة أول كباش الفداء … قد يكون من ممثلي الصف الثاني، أو من الكومبارس، أو حتى من دهماء الجمهور … المهمّ أنه يتمّ تلبيس هذا الممثل قناع التيس المرسل، بالاستعارة من كتب التوراة، و تحميله أوزار كل المرحلة، و تخريج نظامنا في ديكور المعبد الذي تخلّص من مدنّسيه … و هكذا، راحت اشتراكية البلّوط في خبر كان، و جيء بمنقذ آخر (من الكومبارس هو الآخر) ليلعب دور التحرر الاقتصادي و صنع الثروة و تشجيع صــــانعيها و زارعيها الخواص … محليين و أجانب … و نسيت العامة أناشيد العدالة الاجتمـــــــاعية و المساواة بين الجهات، و بين العامل و العامل، و بين المنتج و المنتج، و بين المتعاضد و المتعاضد … و باقي القاموس السائد في الستينــــــــات و الذي ألقى به الزعيم و الحزب و الهادي نويرة والإعلام الرسمي، في أقرب مصب بلدي …
و لن نكرر الكلام عن تكرار تجربة المناورة و ربح الوقت ثم الفشل المحتوم في النهاية … فتلك كانت ضريبتها 26 جانفي، و كانت أيضا ضريبتها انتفاضة أخرى و لكن مسلحة في جانفي آخر و لكن سنة 1980، ولعب الجماعة وقتها لعبة التفتح و التعددية و جاؤوا برئيس اتحاد الكتّاب لكي يلبس دور تيّاس الثمانينات … ولم يطل حبل الكذبة، فوقعوا في مطبّ جانفي 84 و قصة رفع الدعم، و بعدها بسنة غزوْا دار الاتحاد، و بعد ذلك بـثلاثة عقود (4 ديسمبر 2013) أعادوا الغزوة نفسها … و في أثناء كل هذا العمر، لعبوا و غيّروا و تغيّروا و مرّت على المسرح أطنان من الملابس و أكيــــــاس من الأقنعة المستوردة … و لكننا لو دققنا النظر واخترقنا كل هذه الحُجب و لعبات الشخصيات، و انتقال النص من الاشتراكية إلى الليبيرالية إلى التعددية إلى الديمقراطية إلى الخطاب الديني … و تداول الآليات بين التحوير الوزاري، و تغيير رؤساء الحكومات، و تبديل حتى رؤســـــاء الدولة، و الوصول بالانقلاب، و الوصول بصناديق الاقتراع …
لو أمعنّا النظر بعيدا عن أخاديع حواة السلطة التونسية و عرّابيهم في الخارج، لرأينا أننا لم نبارح موقعنا الذي نحن فيه منذ 61 سنة … أي نظام أكول سمين مسترسل الأجيـــــال، و شعب مأكول هزيل مبعثر الصفوف تقوده نُخب من التجّار و الشطّار … و معارضة هي في المحصلة جيش احتياط منتظر في غرفة مجاورة، و جاهز عند كل مناداة و في مطلع كل مرحلة … لا أكثر و لا أقلّ …