في أواخر شهر جوان وبداية شهر جويلية من كل سنة، يتصدّر اسم صفاقس وسائل الاعلام بجميع أنواعها … كيف لا و أبناؤها يحصلون على أفضل النتائج التربوية و مندوبيتا التربية صفاقس 1 و صفاقس 2 تتصدّران الترتيب الوطني في نسب النجاح بالباكالوريا … و يشعر الصفاقسيّة وقتها بالفخر لانتمائهم إلى هذه الرّقعة من الوطن و هو يكاد يكون موسم الفرح الوحيد الذي يحتفون به و يشعرون فيه بأنهم مواطنون عاديون لا مواطنون من درجة ثانية ..
أ تريدون أن تعرفوا سبب الفخر أو هو سبب المبالغة في الفخر الذي تستكثرونه علينا و تلوموننا عليه ؟؟
فإذا كان أهالي باقي الولايات الساحلية أو سكان العاصمة يدرسون في ظروف عادية فيحققون نسبنجاح مرتفعة فإن تلاميذ صفاقس المدينة الثانية من حيث عدد السكان يدرسون في ظروف متردية و يتحدون الكثير من الصعوبات لتحقيق النجاح
صفاقس هي المدينة التي يعرف الجميع أنها مدينة العلم و العمل يعاني سكانها من مشاكل جمة لا يشعر بها إلا من يعيش داخلها …
بعض الأطفال فيها لا يعرفون أنها مدينة ساحلية و لا يرون البحر فيها أبدا رغم أنها صاحبة أطول شريط ساحلي في الجمهورية و يقطع سكانها مئات الكيلومترات ليحظَوْا بمعانقة البحر … فشطوط مثل الكازينو و تابارورة و الشفار وسيدي منصور و حتّى قرقنة كلها مشاكل لا تحصى و لا تعد و في حاجة إلى تدخلات عاجلة من أجل إصلاحها و تطويرها و إنجاز المشاريع الموعودة فيها.
أمّا منطقة ڨرقور و عين فلات ذات الريادة و المردودية الفلاحية سابقا فقد خربتها مصانع “السياب” و قضت على الثروة البحرية بها ودمرت الأراضي و قتلت الأشجار المثمرة مثلما دمّرت الانسان.
فهل جربتم مثلا أن تعيشوا طيلة سنوات في هواء ملوث كذاك الذي كانت تطلقه مدخنة السياب (التي لم تغلق الا منذ سنتين بفضل مجهودات و ضغوط المجتمع المدني) و أن تتعايشوا مع مشاهد أطنان الفوسفوجيبس المشعة مع ما يخلفه ذلك من أمراض تنفسية و جلدية خطيرة ؟؟ نحن في صفاقس جرّبنا ذلك طيلة عقود…
في صفاقس مشاريع البنية التحتية تقضي عشرات السّنوات دون أن ترى النور حتى ييأس السكان و يستسلموا لواقعهم الأليم… فمنذ الثمانينات كان مشروع تابارورة و مشروع ميترو صفاقس حلما لدى شباب المدينة و تحوّلا اليوم إلى كابوس و مجرّد ذكرهما صار يثير السخرية و المرارة… و أضحى شباب الثمانينات شيوخا دون أن يرى هذان المشروعان النور و مازالا حبرا على ورق لم يتجاوزا مراحل الدراسات و بناء التصورات و ما من أمل في أن يريا النور في المستقبل القريب و لا في أن يخفف إنجازهما الازدحام عن طرقاتنا التي غصت بمستعمليها و صارت كل الأوقات فيها أوقات ذروة … و ما زاد الأمور تعقيدا في الفترة الأخيرة الإغلاقات الجزئية للطريق الحزامية المسماة “حزام بورقيبة” التي تعيش منذ أكثر من ثلاث سنوات على وقع أشغال لا تنتهي و يعيش السكان يوميا اختناقا مروريا فظيعا في كل تقاطعاتها
صفاقس التي كانت في الستينات و السبعينات رائدة في مجال الثقافة لم تعد كذلك.. و صارت تفتقر لكل مقومات الحياة الثقافية… مدينة يفوق عدد سكانها المليون ساكن ليس بها قاعة سينما واحدة… المتحف البلدي مغلق منذ سنوات و متحف دار الجلولي أوصد أبوابه للصيانة و لا صيانة ، بل صار معلما آيلا للسقوط.. و متحف العمارة لا تستطيع الوصول إليه و الكثيرون لا يعلمون شيئا عن أمر وجوده لما يحيط به من انتصاب فوضوي و من أكداس ” فريب” شوهت وجه باب القصبة و الساحة المؤدّية إليه .
مدينة قضى مسرحها البلدي سنوات طويلة مغلقا.. و المركب الثقافي اليتيم جاء مشروعا مبتورا و لا يبدو أنه سيكتمل .. و المسرح الصيفي ليس بأفضل حال منهما …أما المكتبة الرقمية فتلك حكاية أخرى حكاية فساد و سوء تصرف وانعدام رؤية خسرنا بها الكنيسة و لم نكسب المكتبة .
أمّا المطار… فأحيانا ننسى أن لدينا مطارا بالمدينة… مطارنا تستغله الطيور بدل الطائرات و لا يستقبل سوى رحلتين يتيمتين أسبوعيا و يضطر المسافرون من طلبة و رجال أعمال و سياح إلى التوجه نحو المنستير أو قرطاج لمغادرة البلاد…
طيب… قد يبدو لكم الحديث عن المسارح و دور السينما و المطار نوعا من الترف.. دعوني إذن أحدثكم عن انقطاع المياه المتكرر في صفاقس.. عن البيوت التي تقضي أياما طويلة دون قطرة ماء واحدة … دعوني أحدثكم عن الحنفيات التي مللنا صوت غرغرتها و هي تحاول جاهدة استجلاب مياه لا تأتي… دعوني أحدثكم عن مدينة لا يمر فيها أسبوع صيفا أو شتاء دون أن تنقطع المياه و إن عادت فهي مياه يأنف الحيوان من أن يشرب منها… مياه ملوثة ملونة صفراء كريهة الرائحة و كلما احتجّ المواطنون أو طالبوا بحقهم في المياه أجاب المسؤولون بأن لا حلّ في الأفق القريب وأن علينا انتظار انجاز محطّة التحلية حتى أواخر 2023 أو ما بعدها و أنّ علينا ترشيد الاستهلاك… و لكنهم لم يوضحوا لنا يوما كيف يمكننا أن نقتصد في استهلاك مادة مفقودة؟؟
و ليكتمل جمال الصورة ها إنّ صفاقس تغرق تحت أطنان من النفايات منذ أكثر من شهر … نفايات في الأزقة و المفترقات و الشوارع الرئيسية.. نفايات في ساحة المستشفى و أمام المدارس و الكليات حذو المصانع … نفايات في الأسواق و الساحات العامة و تحت السور و في الميناء… أينما أدرت وجهك لا ترى غير أطنان القمامة…
فقط ـ و يا للمهزلة ـ تلك الطرقات التي مرت منها وزيرة البيئة تم رفع القمامة عنها و تنظيفها و لعقها لعقا كعادة مسؤولينا في لعق أحذية رؤسائهم في العمل
و تأتي الوزيرة التي طال انتظارها لتقول للمسؤولين و المواطنين إنها لا تملك عصا سحرية لحل الأزمة و أنها جاءت فقط من أجل الاستماع إلى مقترحاتهم ثم ستتباحث في الحلول في ما بعد مع كوادر الوزارة رغم أنّ المشكل قديم متجدّد و رغم أن إطارات الوزارة مطلعون على الملف مند سنوات و المشكل كان متوقّعا و كان من الضروري استباقه، و لكنّ إرادة التّصرّف و إيجاد الحلول مفقودة … فليواصل سكاّن صفاقس الصّبر لا بأس !!… و ليعيشوا وسط النفايات لا يهمّ !!.. و لتهدّدهم الأمراض و الكوليرا لا إشكال !! … ماداموا صامتين يواصلون العمل دون إزعاج راحة حكّامهم …ولكن حذار فتحت الرماد اللهيب و كأس الصبر توشك أن تفيض …
فمسؤولو المركز لا يذكرون صفاقس إلا زمن الجباية و استخلاص الضرائب المستحقة للدولة و لا يخشونها إلا عند الإضرابات و سياسيّونا لا يتسابقون لزيارتها إلا زمن الانتخابات .. و فيما عدا ذلك لا يعتبروننا إلاّ مواطنين من درجة ثانية و قد نسي الجميع أننا أيضا مثلهم توانسة لنا مثل ما لهم و علينا مثل ما عليهم ..
و أمام تدهور كل مرافق العيش كيف لا يعاني سكان صفاقس من الاكتئاب و التوتر و هم يعيشون ظروفا كهذه؟؟ كيف لا تضطرم في أنفسهم مشاعر السخط و الغضب و هم يلاحظون تدني مؤشرات جودة الحياة في مدينتهم التي صارت قرية كبيرة بعد أن كان الرحالة قديما يتغنّون بها و يشيدون بما فيها من نظام و نظافة و هندسة معمارية ومعالم رائعة مثل سورها الذي حافظ على كل أركانه و جامعها الكبير و قصر البلدية التحفة المعمارية المميزة ..
هل أدركتم اليوم لماذا يتباهى أهل صفاقس بنتائج أبنائهم الدراسية ؟ فرغم كل الميزيريا التي يعيشونها في هذه المديـنة المعطبة ، مازالوا قــادرين على العمل و التركيـز و التفوق و النّجــاح أو أنهم قد يكونـون كذلك بفضل هذه الميـزيــريا !